وإنَّ من حُسن الحظ أننا لم نكن أول من حطَّ قدمه على هذا الكوكب ، فهذه الارضُ بسهولها وشعابها العريضة ، وتلك السماء بنجومها وكواكبها الساهرة شهدتا ملايين الملايين من البشر الذين سكنوا الارض من قبلنا ، وشهدتا افراحهم واتراحهم ، همومهم وغمومهم ، وحروبهم ، ومصالحاتهم ، وكل ما رافق واكتنف حياتهم من حبّ وبغض وظلمات وأنوار ، وارتقاء وهبوط ، إلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة البشرية الّتي يزخربها تاريخ الشعوب والاقوام والامم.
صحيح أنهم قد اختفوا مع الكثير من أسرار حياتهم ، وغابوا جميعاً ـ أشخاصاً وأسراراً ـ في بحر من النسيان وانسدل عليهم الستار ، إلاّ أن قسطاً مُلفِتاً للنظر وجملة يُعتد بها من تلك الامور إما أنها قد دُوّنت بأيدي أصحابها ، أولا تزال طبقاتُ الارض وبطون التلال تحتفظ بها في ثناياها وطياتها ، كما ولا تزال ذات الاطلال الصامتة ـ في ظاهرها ـ تشكل أضخم متحف ، واغنى معرض ، واكبر مختبر ، يعيد لنا شريط التاريخ ويحكي وقائعه وأحداثه ، ويشرحُ رموزه وأسراره.
إنَّ مُطالعة تلكم الصفحات من تاريخ الامم الغابرة في الكتب ، أوفي الاطلال العظيمة ، أو في ما يعثر عليه المنقِّبون في بطون التلال ، وثنايا الارض تعلّمنا اُموراً كثيرة ، وتضيف إلى عُمرنا عُمراً جديداً وزمناً اضافياً ، لا يُستهان به وذلك بما تقدمُ لنا مِنَ الخبرة والعبرة ، والهدى والبصيرة.
أليست حصيلة العمر ما هي إلاّ ما استفاده المرء من تجارب؟ ألا يجعل التاريخ خلاصة أفضل التجارب تحت تصرفنا؟
ولقد اشار الامام اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليهالسلام في وصية لولده إلى هذه الحقيقة حيث قال :
« أيْ بُنيَّ! إنّي وإنْ لم اكن عمَرتُ عمرَ من كان قبلي ، فقَد نظرتُ في أعمالهم وفكَّرتُ في أخبارهم وسرت في آثارهم حتّى عُدتُ كأحدهم بل كأَنَّي بما انتهى اليَّ من اُمورهم قد عمّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم » (١).
__________________
١ ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، رقم ٣١.