والبرز في الشمال. فبعد إخضاع ليديا وبابل ، توجه كورش شرقا إلى الهند. وابنه قمبيز احتل مصر ، سنة ٥٢٥ ق. م. وداريوس حاول دخول أوروبا ، لكنه صدّ على أيدي تحالف اليونان بقيادة أثينا. وبعد معركة سلاميس (٤٨٠ ق. م.) ، ولمدة ١٥٠ عاما ، ظل الفرس في موقع الدفاع إزاء اليونان ، إلى أن قضى الإسكندر على إمبراطوريتهم وورثها ، سنة ٣٣٠ ق. م.
لقد كرس كورش جل اهتمامه للاحتلال ، ولم يلتفت كثيرا لتنظيم الإمبراطورية وإدارتها. وبموته اندلعت سلسلة من الثورات ، قمعها ابنه قمبيز ، وغزا مصر. وفي غيابه ، نشبت ثورات في المشرق ، فعاد ليخمدها ، لكنه مات في الطريق. وعقبت ذلك فترة من الاضطرابات لم تهدأ حتى تسلم داريوس السلطة. وهو يعتبر بحق باني الإمبراطورية ، ومؤسس السلالة الأخيمينية. فبعد أن كرس نفسه حاكما مطلقا بإراد إلهية ، كونه ممثلا للإله الفارسي الأعظم ، أهورامازدا ، عمد إلى تنظيم الإمبراطورية ، فقسمها إلى ٢٠ ولاية (سترابا) ، وأدخل تجديدات في الإدارة. ووحد الضرائب والمقاييس والأوزان والنقد ، كما نظم أمور الجيش والبلاط. وكما يليق ب «ملك الملوك» (شاهنشاه) ، كما لقب نفسه ، بنى داريوش بلاطا فخما في كل من إقبطانا وسوسة وبيرسيبولس ، حيث الآثار الفخمة فيها تشهد على عظمته.
مات داريوس والحرب مع اليونان مشتعلة. فبدخوله إلى بلادهم اضطرهم إلى التوحد تحت راية أثينا. وبسعيه للسيطرة على تجارة بحر إيجة استثار شعوب جزره. ولكن خلفاءه لم يستطيعوا حسم الصراع لمصلحتهم. بل على العكس ، بدأوا يتراجعون ، وفي سنة ٤٧٩ ق. م. ، وبعد معركة سلاميس البحرية ، طرد الفرس من بلاد اليونان كلها. وراح هؤلاء يزيدون في ضغطهم على حدود الإمبراطورية الغربية في آسيا الصغرى. وخلال ١٥٠ عاما ، بقي الصراع محتدما ، إلى أن حسمه الإسكندر الكبير ، وورث هو بدوره أراضي إمبراطورية كورش. وبذلك دخلت المنطقة عصرا جديدا هو العصر الهلّيني.
لقد رهن داريوس كبرياء إمبراطوريته بالتغلب على اليونان وإخضاعهم لسلطانه. ولعله رأى الخطر الكامن هناك مبكرا ، فسعى لتداركه قبل فوات الأوان. ومن أجل ذلك بنى آلة عسكرية ضخمة ، ونظمها جيدا ، وأعطى قادتها ورجالها امتيازات كبيرة ، وربطها بشخصه ، فأصبحت بولائها المطلق له ركيزة قوته الأساسية. وجنبا إلى جنب مع تنظيم أمور الدولة الإدارية ، تابع داريوس سياسة كورش المعتدلة إزاء الشعوب المغلوبة والخاضعة ، بإعطائها حرية ممارسة عباداتها وطقوسها الدينية ، وتطوير تراثها الحضاري الخاص. ولعل ذلك يعود إلى التراث الزرادشتي ، المعروف بسماحته