أوضاع الإمبراطورية تتردى ، وقامت ثورات في مصر ضد الحكم الفارسي ، أولى ملوك فارس أهمية كبيرة لجنوب فلسطين ، كخط دفاع ، بما في ذلك مقاطعة يهود. وأوفد أرتحشستا (٤٠٤ ـ ٣٥٩ ق. م.) إلى أورشليم ، موظفين يهوديين من بلاطه ، هما : عزرا الكاتب ، الذي جمع التوراة بعد وصوله من مصادر متفرقة ، ونحميا ، وزير الشراب في بلاط الملك ، الذي تولى القيادة العسكرية. والواضح أن هذه المبادرة من قبل الشاهنشاه كانت ترمي إلى تأمين الحدود مع مصر. ولكن الإنجازات كانت ضئيلة ، في ضوء تراجع الإمبراطورية وهامشية فلسطين في الاعتبارات الفارسية ، حيث لم يستوطن الفرس ، ولم يبنوا مدنا خاصة بهم ، كما لم يهتموا كثيرا بتطوير البلد وتعميره. ومهما يكن الأمر ، فإنه لم تمض فترة طويلة بعد «عودة صهيون» حتى قام الإسكندر المقدوني بحملته الشهيرة إلى الشرق ، واحتل فلسطين سنة ٣٣٢ ق. م. ، وأنهى الحكم الفارسي فيها ، كما في غيرها. ولكن ذلك لم يكن إلّا موقتا ، إذ عادت فارس إلى النهوض مرة أخرى ، وظلت لقرون طويلة المنافس السياسي والحضاري للعالم اليوناني ـ الروماني.
وعلى العموم ، تبقى معلوماتنا عن فلسطين في هذا العصر قليلة ومبعثرة. والواضح أن الفرس لم يولوا هذه المقاطعة ، بل الولاية كلها (عبر نهرا) ، أهمية كبيرة ، وكان همهم فيها الحفاظ على النظام والولاء للملك. وعدا ذلك ، لم يتدخلوا في شؤون الناس السياسية والدينية. ولكنهم سعوا للإفادة من الإمكانات والموارد. فبنوا أسطولا بحريا بمساعدة الفينيقيين ، لأغراض الصراع مع اليونان ، ولذلك أقاموا علاقات متميّزة مع المدن الساحلية ، وخصوصا مع صور وصيدا. كما بنوا شبكة من الطرق البرية لتمكين الجيوش الفارسية من الوصول إلى مصر والسيطرة عليها. والحفريات الأثرية في مواقع متعددة كشفت مخلفات من هذا العصر ، وهي تشير إلى تراجع الحياة الاقتصادية والنشاط العمراني ، فافتقرت المدن إلى التخطيط والتنظيم المعهودين من العصور السابقة. كما أن المباني العامة والتحصينات قليلة للغاية.
ويغلب على المواقع الفلسطينية في هذه المرحلة طابع المجتمعات الزراعية. وقد ظهرت المخلفات المعمارية من العصر الفارسي في عدد من المواقع ، عثر عليها في أثناء عمليات التنقيب التي استهدفت الكشف عن مخلفات عصور أخرى ، وبالتالي لم يولها المنقبون اهتماما خاصا. وإذ لم يشيّد الفرس كثيرا في فلسطين ، فإنهم لم يدمروا أيضا ، لأنهم احتلوا البلاد من دون مقاومة تقريبا ، بعد سقوط بابل في أيديهم. ومن بين المواقع التي عثر فيها على مخلفات تعود إلى العصر الفارسي : تل الدوير (لاخيش) وتل جمّة (النقب الغربي) ومجدّو وتل أبو حوّام (قرب حيفا) وتل