الله لتحقيق الهدف الأسمى المقدس.»
والأكيد أن القسطنطينية تطورت بمسار طويل ، استمر قرونا ، لتصبح «عاصمة عالمية» ، بآلتها الإدارية والعسكرية والمالية وبقانونها الروماني وحضارتها اليونانية وبتجارتها المسيطر عليها تماما ونشاطها الفكري الثقافي. لكن قسطنطين الكبير هو صاحب الفضل الأول في وضع حجر الأساس لهذه الظاهرة الفريدة. فهو الذي اختار الموقع ، بناء على تقدير حصيف للواقع الذي وصلت إليه الإمبراطورية الرومانية ، بأطرافها المترامية. لقد راهن على الشطر الشرقي منها ، وكسب. كما رأى أن المستقبل للمسيحية في مواجهة الوثنية الرومانية ، وذلك بقراءة ثاقبة للتطورات على هذا الصعيد بين قطاعات السكان ، وكان مصيبا. وباعترافه الرسمي بها بعد اعتناقه لها شخصيا ، تقدمت المسيحية ، بفعل ذاتي نشط ودؤوب ، لتصبح عمليا الديانة السائدة في الإمبراطورية ، وتجعل من بيزنطة إمبراطورية مسيحية «أورثوذكسية».
وشكّل الاعتراف بالمسيحية قطعا مع الماضي في الإمبراطورية الرومانية ، على الأقل في جزئها الشرقي. والمسيحية التي عانت من الاضطهاد لفترة طويلة ، انتقلت إلى الموقع المتميز ، الأمر الذي لم يكن ممكنا إلّا بتضافر العوامل المتعددة التي أدّت إليه ، في ظروف الزمان والمكان. لقد دخلت الإمبراطورية في مرحلة جديدة ، سمتها العامة التناقض مع الماضي ، حتى الذاتي. فالماضي ، على الأقل من الناحية الدينية ، لم يعد يسد الحاجات القومية ، إذ برزت حاجات ورغبات جديدة ، كانت المسيحية فقط قادرة على تلبيتها في حينها. والإمبراطور ، الذي أصبح حامي «العقيدة الأورثوذكسية» ، طلب من رعاياه الولاء ، سياسيا ودينيا ، بينما المسيحية هي أساس الوحدة ، التي تتخطى الحدود الجغرافية والخلافات القومية والعرقية. أمّا قسطنطين ، فقد طرح نفسه الشخص الذي اختارته العناية الإلهية ليجمع الشعوب كلها تحت حكم المسيح ، في إطار كنيسته الأورثوذكسية.
ولد قسطنطين في مدينة نايسوس (نيش) في مقدونيا. وهو ابن قائد عسكري ، وأمه هيلينا (القديسة) ، كانت مسيحية ، وقامت بالحج إلى فلسطين ، وبحسب الرواية عثرت على «صليب المسيح» الحقيقي. وكان قسطنطين في جيش والده ، في بريطانيا ، عندما مات ، فنصبه جنود أبيه قائدا لهم. إلّا إنه كان عليه أن يخوض معارك مع منافسيه ليثبت موقعه. وفي هذه المعارك ، كما تورد الروايات ، قاتل تحت راية الصليب ، بناء على رؤيا ظهرت له في نومه ، فاعتنق المسيحية (٣١٢ م) بعد النصر. والحدثان المهمان في حكم قسطنطين ، وخصوصا بالنسبة إلى التاريخ اللاحق ، هما : بناء القسطنطينية وجعلها عاصمة الإمبراطورية الرومانية بدلا من روما ؛ وتبني المسيحية