وجعلها ديانة رسمية. وبغض النظر عن الجانب الإيماني في موقف قسطنطين من المسيحية ، فإنه بالتأكيد رأى فيها عامل توحيد لشعوب الإمبراطورية. لقد أراد تصليب وحدة الإمبراطورية عبر وحدة الكنيسة.
وأولى قسطنطين فلسطين عناية خاصة ، أكان ذلك لأسباب سياسية ـ اقتصادية متعلقة بموقعها ، أو لأسباب ذاتية دينية ، كونه اعتنق المسيحية ، أو بتأثير أمه ، هيلينا التي أمضت وقتا طويلا فيها. وفي أيامه ، وجزئيا بإشراف والدته ، بنيت عدة كنائس كبيرة في فلسطين ، في مواقع لها علاقة بحياة المسيح. ومنها «كنيسة القيامة» و «كنيسة الصعود» في أورشليم ، وكذلك «كنيسة المهد» في بيت لحم و «كنيسة البشارة» في الناصرة وغيرها. وبفضل الحركة العمرانية الكبيرة ، وهجرة عدد من أغنياء المسيحيين إليها ، وكذلك انتعاش حركة الحجاج إليها ، شهدت البلاد ازدهارا اقتصاديا. فتوسع الاستيطان فيها ، كما أعيد بناء عدد من المدن ، وانتشرت القرى الزراعية ، حتى في المناطق الواقعة على أطراف الصحراء. لقد طغت المسيحية على اليهودية في فلسطين ، ووسمتها بسمتها الجديدة الخاصة.
وباعتناقه المسيحية ، وإعلانها ديانة رسمية. معترفا بها ، أحدث قسطنطين نقلة نوعية في شؤون الإمبراطورية. لكن التجسيد العملي لهذه السياسة تمّ في أيام خلفائه. فابنه ووارثه ، كونستانتين الثاني (٣٣٧ ـ ٣٦١ م) ، طالب رعاياه باعتناق ديانة الإمبراطور ، وأصدر عددا من المراسيم بهذا الخصوص. وجاء ثيودوسيوس الأول (٣٧٩ ـ ٣٩٥ م) ، ومن بعده ابنه أركاديوس (٣٩٥ ـ ٤٠٨ م) ، ليضعا هذا التوجه موضع التطبيق العملي. ففي ٢٧ / ٢ / ٣٨٠ م صدر «مرسوم ثيسالونيكا» الذي كرّس الكنيسة الكاثوليكية ديانة للإمبراطورية. وهذا المرسوم وطّد موقع المسيحية في الإمبراطورية ، من جهة ، وفتح باب الخلافات العقائدية داخل الكنيسة ، من جهة أخرى. ومراسيم ثيودوسيوس ، الذي يرتبط اسمه بانتصار المسيحية ، لم تترك مجالا للاعتدال مع الديانات السابقة ـ الوثنية واليهودية ـ وحتى مع التيارات المسيحية الأخرى. لقد كان ثيودوسيوس جادا في توحيد الإمبراطورية ، على أساس وحدة الدين والكنيسة. ولتنفيذ هذه السياسة ، استكملت الكنيسة تنظيمها الإداري ، إذ أصبحت مؤسساتها وفروعها موازية في تقسيماتها الإدارية لتقسيمات الدولة ، بينما في قمة الهرم ، الديني والمدني ، الإمبراطور نفسه.
إن الترتيبات اللاحقة لإعلان المسيحية ديانة الإمبراطورية ، أدّت إلى وضع صار فيه رأس الدولة هو رئيس الكنيسة أيضا. وكان طبيعيا أنه في مقابل سعي الإمبراطور لتوحيد الناس خلفه ، سياسيا ودينيا ، صار عليه أن يدفع الثمن السياسي عندما يضطره