القرنين العاشر والحادي عشر ، برز فيهم بنو الجراح في محيط الرملة بفلسطين ، الذين حاولوا ـ أسوة بغيرهم من قبائل الشام في مرحلة تراجع الخلافة العباسية ـ استغلال الفرصة ، والإفادة ـ ماديا وسياسيا ـ من حالة الفوضى السائدة ، شأنهم في ذلك شأن القبائل العربية الأخرى ، فلم ينظروا بعين الرضا إلى الحكم الفاطمي الذي يهدد مصالحهم ، وظلوا يناوئونه.
وقد برز بنو الجراح في جنوب بلاد الشام غداة أفول نجم الحمدانيين في شمالها ، بعد موت سيف الدولة (٩٦٧ م). وكان العباسيون قد أهملوا بلاد الشام وعربها ، واعتمدوا بداية على الفرس ، ثم على الترك. أمّا الفاطميون ، فقد رأوا فيها جسرا للوصول إلى بغداد في البداية ، وعندما تخلوا عن فكرة دخولها عنوة ، صارت بلاد الشام خط الدفاع عن مصر ، الأمر الذي لم يرق لسكانها. وفي غياب سلطة مركزية موحدة في بلاد الشام ، تناحرت القبائل ، متعللة بذرائع متعددة على اقتسام الأراضي والموارد. وأدّت القوى المجاورة ـ الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر والإمبراطورية البيزنطية ـ دورا في إذكاء الصراع بين القوى الصغيرة المحلية. ثم ما لبث القرامطة أن دخلوا بقوة على خط التكتلات المحلية والصراعات الإقليمية. فكانت النتيجة تدهور حالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.
وعلاقات بني الجراح بالفاطميين تقلبت بين التحالف معهم والتمرد عليهم. وكان الحمدانيون قد سبقوهم إلى إقامة إمارة مستقلة شمالي سورية والعراق. أمّا بنو الجراح ، فلأسباب ذاتية ـ التركيبة القبلية ـ وأخرى موضوعية ـ الانتشار في فلسطين ـ لم يستطيعوا بلوغ شأن الحمدانيين ، على الرغم من أن الفاطميين اعترفوا بزعامتهم المحلية. ويبدو أن بني الجراح أدّوا دورا محليا في أيام الطولونيين والإخشيديين ، كافأهم عليه ولاة مصر. وعندما ضعفت هاتان السلالتان ، عزز بنو الجراح موقعهم ونفوذهم في فلسطين. أمّا الفاطميون ، فقد سعوا لتحجيم هذا الدور بالقوة. وبناء عليه ، انتهز بنو الجراح كل فرصة مواتية للتمرد ، واستعادة دورهم ، كلما حجب عنهم الفاطميون الولاية ، وحرموهم من منافعها ، ولكنهم دخلوا في خدمتهم وتحالفوا معهم عندما أغدق الفاطميون العطاء عليهم.
وفي الفترة ما بين سنة ٩٧٠ م إلى سنة ١٠٤٢ م ، أدّى بنو الجراح دورا مركزيا في تاريخ بلاد الشام. وبداية انضم مفرج بن دغفل بن الجراح إلى الحسن الأعصم القرمطي (٩٧٠ م) لقتال جيش الفاطميين وإلحاق الهزيمة به. وتولى مفرج بعد ذلك إمارة الرملة. ومرة أخرى يرد ذكر حسان بن الجراح في تحالف مع الأعصم سنة ٩٧٤ م ، في زحفه على مصر للمرة الثانية. ولكن المعزّ أغرى حسان بالمال ، فتخلى