الكنيسة إلى الأمام. ولذلك رأى في الحملات الصليبية سبيلا إلى ذلك ، فكانت استجابته لطلب المساعدة من إمبراطور بيزنطة أقوى من توقعات هذا الأخير أو رغباته.
وفي الجانب الدنيوي ـ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ تقاطعت مصالح شرائح طبقية متعددة للنظر بإيجابية عالية إلى فكرة الحملات الصليبية. ومع أن هذه الشرائح كانت شريكة بالعاطفة الدينية ، إلّا إن الحوافز الأخرى كانت قوية أيضا ، وأحيانا طاغية. فبالنسبة إلى الطبقات العليا ـ الملوك والبارونات والنبلاء والفرسان ـ كانت الحملات الصليبية فرصة مواتية لتلبية النزعات القتالية وميول المغامرة وحب الثروة والغنائم والطمع في تأسيس إقطاعيات جديدة ، إضافة إلى الاسم والجاه والسمعة ... إلخ. أمّا في الطبقات الدنيا ، التي اجتاحتها الغرائز الدينية ، فقد ساد الاعتقاد أن الحملات الصليبية هي مناسبة لتغيير أوضاعها الاجتماعية : التخلص من القنانة وتأجيل دفع الديون أو الإعفاء منها والحصول على ملكية جديدة والتحرر من الظلم الإقطاعي .. إلخ. وبالنسبة إلى هؤلاء لم يكن هناك ما يخسرونه في المغامرة والانضمام إلى حملة صليبية تحملهم إلى الشرق الذي تصوروه مصدرا للثراء ، واعتقدوا أن أرضه الخصبة «تدر اللبن والعسل».
خلاصة القول إن أوروبا القرن الحادي عشر كانت مهيّأة ـ ماديا ومعنويا ـ لقبول فكرة الحروب الصليبية والانطلاق لتجسيدها. فالأوضاع الاجتماعية الصعبة ـ الفقر وضيق رقعة الأراضي الزراعية وازدياد عدد السكان وتواتر الكوارث الطبيعية والأوبئة ـ والنزعات التوسعية والطمع في ثروات الشرق وطموح الأمراء والنبلاء الصغار في تأسيس إقطاعيات خاصة بهم وروح المغامرة لدى الفرسان ، كانت كلها عوامل فاعلة في تشكّل ظاهرة الحملات الصليبية ، فكرا وممارسة. وأعطت حركة الإحياء الديني حلا للمشكلات يتمثل بالتوبة والزهد والتصوف ، والمهم التكفير عن الخطايا بالعمل في سبيل الدين ، واستعادة السيطرة على الأمكنة المقدسة ـ كنيسة المهد والقيامة والصعود ـ المتعلقة بحياة «المسيح المخلص». ومن هنا التجاوب الواسع مع حرب دامية تحت شعار «هذه إرادة الله» وخلف لواء «الصليب المقدس» وبقيادة «الكرسي الرسولي». وجاء تهديد السلاجقة إلى القسطنطينية ليفجر هذه النزعات الكامنة ، ويحوّلها إلى حملات عسكرية تغزو الشرق الإسلامي.
في المقابل ، وخلال ما يزيد عن أربعة قرون ، ظل المسيحيون في أراضي الخلافة يمارسون حياتهم وشعائرهم الدينية بحرية ، ما عدا فترات قصيرة ، كانت بمثابة الشاذ وليس القاعدة. وقد احتفظ هؤلاء بأمكنتهم المقدسة ، ولم تتدخل السلطة كثيرا في شؤونها وإدارتها. والأمر بهدم كنيسة القيامة (١٠٠٩ م) من قبل الحاكم بأمر الله ،