فانطلق للعمل بما أوتي من نشاط.
وتحت غطاء الدعوة من قبل إمبراطور بيزنطة ـ رئيس الكنيسة الشرقية الرسمي ـ وبناء على المباركة ، بل التحريض ، من قبل البابا ـ رئيس الكنيسة الغربية ، الرسمي والفعلي ـ وجدت الفئات والقوى المتعددة في أوروبا التبرير الذاتي لانخراطها في الحملات الصليبية ، وكل منها بمنظوره الخاص ، فلم تكن هناك وحدة فكرية وتنظيمية بين تلك القوى ، إنما في أحسن الأحوال إطار عام. ولا بدّ من الإشارة إلى أن عملية الانتقال من الفكرة المجردة للقيام بحملات صليبية إلى التطبيق الفعلي ، كان يستلزم ظروفا موضوعية وذاتية في أوروبا. كما أن نجاح هذه العملية كان يستوجب الأوضاع ذاتها في الشرق ، وإلّا لما خرجت العملية إلى حيز التنفيذ. إن انتقال المواجهة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي من حالة الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة ، كان بالضرورة نتيجة احتدام التناقض بين الطرفين ، الأمر الذي أدّى إلى اندلاع الصراع بهذه الدرجة من الحدة ، بعد أن ظل فترة طويلة لا يتعدى المناوشات على الأطراف.
وبداية يجب التشديد على أهمية الدين في حياة الناس خلال القرون الوسطى. وكما سعى الإمبراطور البيزنطي لجعل المسيحية دين الدولة والقاسم المشترك بين شعوبها ، كذلك فعل العباسيون بالتشديد على أن الإسلام ، وليس العروبة ، هو الأساس لوحدة شعوب الخلافة. وعشية الحروب الصليبية ، كانت الأجواء العامة ، سواء في الشرق أو في الغرب ، مشحونة بالشعور الديني. فدخول السلاجقة إلى أرض الخلافة في القرن الحادي عشر ، عزز موقع السنّة إزاء الشيعة ، خلافا لما كان عليه الحال في القرن العاشر. في المقابل ، شهد القرن الحادي عشر في أوروبا حركة إحياء ديني واسعة النطاق ، وخصوصا بين الطبقات الشعبية ، شكّلت التربة الخصبة التي تنامت فيها الأفكار الصليبية. وعندما جاءت الدعوة إلى القيام بحملات عسكرية تحت راية الصليب ، كانت الاستجابة الشعبية واسعة أيضا.
وفي الجانب الديني ، التقت المشاعر الشعبية العفوية مع خطة البابوات المبرمجة لاستعادة الكنيسة الشرقية إلى أحضان الكرسي الرسولي في روما. وقد أدّى رهبان دير كليني (فرنسا) دورا مهما في حركة الإحياء الديني ، إذ عمق هؤلاء الشعور الذاتي بالذنب لدى الناس ، في واقع اجتماعي صعب ، ساد فيه الإحباط قطاعات شعبية واسعة. وللتكفير عن خطاياهم ، دعا الرهبان الناس إلى الزهد والعزلة والأعمال الروحية والحج. وحتى اللاهوت والفلسفة في تلك الفترة اكتسبا طابعا صوفيا ، وازدهرت الرهبنة. أمّا البابوات ، فقد شعروا بقوتهم في القرن الحادي عشر ، وخصوصا أيام غريغوريوس السابع. وجاء بعده أربان الثاني ليدفع مسيرة تعزيز موقع