التوصل إلى معاهدة مع الصليبيين ، يقتسم بموجبها الطرفان الساحل السوري. لكن المفاوضات التي أفادت الصليبيين ، ومكنتهم من احتلال أنطاكيا في حزيران / يونيو ١٠٩٨ م لم تؤدّ إلى اتفاق. وفي أنطاكيا ، وعلى الرغم من معارضة قادة الجيوش الأخرى ، أقام بوهيمند النورماني إمارة ثانية ، أثارت غضب الإمبراطور ألكسيوس ، الذي رأى فيها خطرا يهدد بيزنطة نفسها.
وبعد تلكؤ دام عدة أشهر ، بسبب الخلافات الداخلية ، والتي انتهزها سلطان الموصل ، برقياروق ، لمحاصرة الصليبيين في أنطاكيا ، إذ ضيق الخناق عليهم من دون القدرة على دحرهم ، واصلوا تقدمهم جنوبا في اتجاه فلسطين. فأخذوا معرّة النعمان ، وقاموا بمذبحة كبيرة فيها ، ومنها انتقلوا إلى شيزر ، فوادعهم صاحبها ، ثم إلى عرقة ، فحاصروها ، وكانت وجهتهم الطريق الساحلي. وجاءهم وفد فاطمي للتفاوض مرة أخرى ، ولكن من دون جدوى ، فسارع هؤلاء إلى تعزيز مواقعهم الدفاعية في صور وعكا والقدس (١٠٩٨ م). وأخذ الصليبيون طرابلس ، وأقاموا فيها لاحقا إمارة ثالثة ، على رأسها ريموند دو طولوز. وتابعوا تقدمهم جنوبا مرورا ببيروت من دون احتلالها ، وكذلك صيدا وصور ، لأن هذه المدن لم تبد مقاومة ، بل قدمت لهم المؤن والتسهيلات. واختار القادة الصليبيون التقدم نحو القدس ، تحت ضغط جموع المقاتلين لاستكمال الحج إلى الأماكن المقدسة.
وتخلف عدد من المقاتلين في الإمارات التي تأسست حديثا ـ إديسا وأنطاكيا وطرابلس ـ ولم يبق كثيرون منهم للزحف على القدس. واستجاب ريموند دو طولوز لنداء غودفري دو بويون وتابعا طريقهما إلى القدس. وفي أيار / مايو ١٠٩٩ م ، ظهر هذا الجيش على الطريق الساحلي المؤدي إلى فلسطين من لبنان. وأفزع ظهوره حكام المدن الساحلية ، فوافقوا على تقديم المؤن والمال للصليبيين في مقابل تخطي هؤلاء مدنهم من دون حصار. وسار الجيش الصليبي أمام عكا وحيفا وأرسوف ، ووصل إلى قيساريا. ومن هناك انعطف إلى الرملة ، عاصمة فلسطين ، فهجرها أهلها ، واحتلها الصليبيون ، وتابعوا مسيرتهم إلى القدس. وامتنعت عليهم المدينة ، فحاصروها من ٧ حزيران / يونيو إلى ١٥ تموز / يوليو ١٠٩٩ م. وسقطت في أيديهم ، وقاموا بمذبحة رهيبة بالسكان المحليين ، الذين يقدر عددهم ما بين ٢٠ إلى ٣٠ ألف نسمة. واستنكف ريموند ، لأسباب دينية ، عن تولي الملك في القدس ، وقبل به غودفري ، وحمل لقب «بارون ـ حامي كنيسة القيامة المقدسة». أمّا ريموند فعاد لإقامة إمارته في طرابلس ، بلقب كونت.
وبعد تأسيس مملكة أورشليم اللاتينية ، توجه قادتها إلى استكمال احتلال ساحل