بالمظهر الشخصي ، وهذا ما يوحي بقيام علاقات اجتماعية راقية المستوى.
ومن الواضح أننا في الباليوليت الأعلى نقف أمام إنسان قطع شوطا بعيدا في تنظيم حياته ، وفي صوغ علاقاته الاجتماعية ، والسيطرة على المحيط ، والتعامل مع البيئة. فحضارته ولا شك أعلى كثيرا من حضارة أسلافه ، ليس فقط فيما يتعلق بالأدوات والأواني والأغراض الأفضل صنعا ، بل في تنوعها وتعدد أوجه استعمالها أيضا. وفضلا عن شظايا الحجارة الصوانية الراقية التصنيع ، جرت الإفادة من القرون والعاج. وبين مخلفاته نجد الإبر العظمية والصنانير والرماح المسننة وقواذف الأسهم ، وكذلك القوس والنشاب ، والواضح أنه كان يرتدي الثياب التي صنعها من جلد الحيوانات ، كونه لم يعرف نسج القماش.
ويطلق الباحثون على إنسان الباليوليت الأعلى في أوروبا اسم كرومانيون (Cro ـ Magnon) ، على اسم مغارة في فرنسا ، تمثل الموقع النموذج لحضارته. وتظهر مخلفاته دلائل على حياة جماعية ، تنضوي فيها أعداد أكبر من البشر في تجمعات مشتركة. ومثل هذا الوضع الجديد استلزم تقسيما للعمل ، وبالتالي بروز الاختصاصات الحرفية والفنية والدينية ، وكذلك تراتبية اجتماعية تنتهي بالقائد الفرد. وهناك دلائل قوية على أن إنسان كرومانيون شغل فكريا بعالم القوى الخفية ، وأبدى اهتماما كبيرا بالأموات ، وبطرق دفنهم ، وتهيئتهم للعالم الآخر ، من تضميخ للجسد ، وضمّ للذراعين فوق الصدر ، وتزيين بالأعلاق والعقود ، وتزويد بالأسلحة وبغيرها من الأدوات التي تودع القبر مع الميت.
وفي فلسطين اكتشف الكثير من المواقع التي تعود إلى عصر الباليوليت الأعلى ، ومنها أتت المعلومات الأولى عن هذا العصر في الشرق الأدنى ، ثم تتابعت الاكتشافات في سورية ولبنان والأردن. ويقسم العلماء هذا العصر إلى مراحل حضارية : قديمة ، تسمى الأحمرية ، نسبة إلى ملجأ في عرق الأحمر ، في سفوح جبال القدس الشرقية ، وهو الموقع النموذج لهذه الحضارة في فلسطين ، والتي توازي الحضارة الأورينياسية في أوروبا ، وحديثة ، تسمى الكبّارية ، نسبة إلى مغارة كبّارة ، في الطرف الغربي لجبال الكرمل. ومنهم من يميّز مرحلة انتقالية بينهما ، يسميها العتليتية نسبة إلى موقع عتليت على الساحل ، جنوب حيفا.
والتنظيم التراتبي ، من الأسفل إلى الأعلى ، للحضارات المادية من الباليوليت الأعلى ، يقوم على حفريات أثرية ، جرى معظمها في فلسطين ، وبعضها في المحيط ، الأمر الذي ربما يتغير بحسب نتائج حفريات أخرى مستقبلية ، والموقع المهم للفترة الأولى هو الملجأ الصخري في عرق الأحمر. أمّا بالنسبة إلى الفترة الثانية والأخيرة