للباليوليت الأعلى فهي مغارة كبّارة ، التي يعتبرها البعض مرحلة انتقالية إلى العصر الحجري الوسيط (الميزوليت). ونسبة إلى هذا الموقع سمّيت الحضارة الكبّارية ، التي انتشرت في جميع أرجاء سورية الكبرى ، من النقب إلى الفرات ، ومن غور الأردن الجنوبي إلى جبال طوروس.
وعدا هذين الموقعين النموذجين ، فقد اكتشفت آثار هذا العصر في مغارة الواد (ادي فلاح) في جبال الكرمل ، وفي مغارة القفزة ، قرب الناصرة ، حيث وجدت هياكل عظمية تعود لإنسان هذا العصر. وكذلك في مغارة الأميرة في وادي العمود الذي يصب في بحيرة طبرية ، وفي مواقع متعددة في النقب والساحل ، ومنها عتليت. أمّا في سورية ، فقد وجدت في ملجأي يبرود وغيرهما. وفي لبنان ، كشف موقع كسار عقيل التتالي الأكمل للتراتبية الطبقية من هذا العصر حتى نهاية الأحمرية.
وتظهر مغارة الأميرة مرحلة انتقالية إلى الباليوليت الأعلى المبكر ، الذي تمثله الحضارة الأحمرية. أمّا في كبّارة فقد وصلت حضارة هذا العصر إلى ذروة انتشارها ، فجعلت من سورية الكبرى وحدة حضارية ، لعلها الأولى في الشرق الأدنى القديم. وتبرز الكبّارية تقدما ملحوظا في الحضارة المادية وتقنية إنتاجها. فهي تتميّز بصناعة الشفرات الصوانية الصغيرة والرقيقة ، التي انتشر استعمالها على نطاق واسع ، وكذلك بانتقال الإنسان من المغاور إلى منازل الصيد في العراء ، وصيد الأسماك على ضفاف الأنهار والبحيرات. ويتضح أن الإنسان في هذه المرحلة أضاف الحبوب إلى وجبات طعامه ، إذ وجد هاون من البازلت بالقرب من النقيب ، على الشاطىء الجنوبي ـ الشرقي لبحيرة طبرية ، وإلى جانبه مدقة لطحن الحبوب ، التي من المؤكد أنها جمعت من البرّ ، إذ لم تكن الزراعة معروفة للإنسان بعد.
ويولي الباحثون المختصون الحضارة الكبّارية في فلسطين أهمية خاصة ، لأنها ـ أساسا ـ محلية ، ولأنها انتشرت في سورية الكبرى كلها ، كحضارة موحدة متجانسة ، انطوت على تحوّلات مادية كبيرة ، وشكلت مرحلة انتقالية ، مهّدت لظهور الحضارة النطوفية في العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) ، وبالتالي إلى استعادة الشرق الأدنى مركز الثقل الحضاري الإنساني ، بعد أن انتقل في الباليوليت الأعلى إلى أوروبا. وفي هذه الحالة أيضا ، ظلت التقلبات المناخية هي الأكثر رواجا في تفسير هذه الظاهرة ، وبناء على ذلك ، حدثت التبدلات في الأنماط الحضارية خلال العصور اللاحقة ، وفق استجابة المجموعات البشرية للتحديات التي طرحتها الأحوال المناخية.
وبينما تشبث إنسان أوروبا بنمط حياته واقتصاده القائم أصلا على الصيد ، فراح يرحل شمالا متعقبا قطعان الغزلان ، وغيرها من الحيوانات التي هاجرت إلى مناطق