الطرفان في معركة شرسة في ٧ أيلول / سبتمبر ١١٩١ م ، كان النصر فيها للصليبيين. فاحتلوا أرسوف ، ثم يافا ، التي أعاد ريتشارد بناء مينائها ليكون الثالث بعد عكا وصور فى أرض ما تبقى من مملكة أورشليم ، إضافة إلى أنطاكيا وطرابلس. وبعد أرسوف توجه صلاح الدين إلى القدس لتحصينها ، بعد أن دمر وراءه اللد والرملة واللطرون. وتبعه ريتشارد ، إلّا إنه غير رأيه عند مشارف القدس لاقتناعه بعجزه عن أخذها عنوة. وفي ٢ أيلول / سبتمبر ١١٩٢ م ، توصل الطرفان ، بعد مفاوضات طويلة ، إلى اتفاق ، أقيمت بموجبه مملكة صليبية ، مركزها عكا (سان جان داكر) ، وحدودها في الشمال صور ، وفي الجنوب يافا ، وتضم الشريط الساحلي في السهل من دون الجبل ، ومنطقة الرملة مقسمة بين الطرفين ، وللمسيحيين الحق بزيارة الأماكن المقدسة في القدس والناصرة.
في هذا الصلح بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ، دخلت عوامل متعددة. فعدا العلاقات الشخصية التي نسجت بين الاثنين على ساحة المعركة ، كانت هناك عوامل موضوعية. فبالنسبة إلى صلاح الدين ، كانت الحرب التي خاضها طوال ما يقارب العقدين قد أنهكت جيشه ، وأفرغت خزائنه ، وخصوصا أن بقية الحكام المسلمين لم يقدموا له أية مساعدة تذكر ، بل على العكس. وأمّا ريتشارد ، فقد جرح في معركة أرسوف ، ثم مرض ، وبلغه خبر الانقلاب الذي قام به أخوه عليه في إنكلترا ، فاستعجل العودة. وقبل أن يغادر حسم مسألة الملك في عكا لمصلحة مونتفرات ، الذي ما لبث أن اغتالته الإسماعيلية ، فعين ريتشارد مكانه ابن أخته هنري دو شامبين. أمّا ملك أورشليم السابق ، غي دو لوزينيان ، فقد اشترى جزيرة قبرص من ريتشارد ، وأقام فيها ملكا صليبيا ، دام ثلاثة قرون تقريبا (١١٩٢ ـ ١٤٧٢ م) ، وظل نشطا في العمل ضد الشرق حتى سقط بأيدي العثمانيين.
وبعد الصلح الذي يبدو أنه كان مرغوبا فيه من الجانبين ، عاد صلاح الدين إلى دمشق ، ليأخذ استراحة المقاتل بعد عشرين عاما من الجهاد غير المنقطع. فوافته المنية في ٣ آذار / مارس ١١٩٣ م. وظل صلاح الدين رمزا لفروسية القرون الوسطى ، يشهد له بذلك أولياؤه وأعداؤه ، في الشرق كما في الغرب. ففضلا عن قدراته العسكرية والقتالية ، وتشبثه بالهدف وجلده على تحمل الأعباء في الصراع الطويل ، عرف صلاح الدين بالزهد في حياته ، وبمكارم الأخلاق والمروءة وحسن المعشر. وكان يميل إلى العلم والأدب ، ويرعى الحرمات ويخاف الله. ومن هنا ، ظل شخصية تاريخية مرموقة طوال القرون. وقد ذاع صيته في حياته ، كما أصبح أسطورة بعد مماته ، ليس في المشرق فحسب ، بل في المغرب أيضا. وكتب عنه الأوروبيون