سابقه ، إذ لا يجوز توارثه ، على الأقل بصورة نظرية. ولا غرو في ذلك ، فالمماليك شكّلوا من أنفسهم طبقة عسكرية حاكمة ، لم تكتسب فيها الوراثة شرعية تتمتع بإجماع. ولذلك كثرت في الدولة الانقلابات ، وخصوصا في القمة. ولضمان أرضهم ومداخيلهم ، عمد الكثيرون من المماليك إلى «وقف» أملاكهم ، سواء على المؤسسات العامة ـ المساجد والمزارات والمدارس والمشافي وغيرها ـ أو على أبنائهم (الوقف الذري) من بعدهم. وقد انتشرت هذه الظاهرة في العصر المملوكي ، في جميع أنحاء الدولة ، بصورة لم يسبق لها مثيل. وكذلك ، أقطع المماليك مشايخ القبائل والعشائر أرضا ، ظلت ملكا مشاعا للقبائل. والإقطاع ، في أشكاله جميعها ، لم يلغ الملكية الخاصة ، وانحصر بأملاك الدولة ، التي كانت على العموم الأوسع والأجود.
وإذ ظلت الزراعة عماد الاقتصاد في الدولة المملوكية ، فإن التجارة ـ الداخلية والخارجية ـ ازدهرت في أيامهم الأولى كثيرا ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصناعة. وعلى العموم ، نشط التبادل التجاري بين الأقاليم ، وكذلك مع الخارج. ونظرا إلى ما كانت تدره من أرباح ، عبر الضرائب والمكوس ، على البضائع والأسواق والجسور والمحطات الحدودية ، فقد أولى المماليك التجارة عناية كبيرة. فاجتهدوا في الحفاظ على الأمن ، أكان ذلك على الطرق ، أو في الأسواق والموانىء ، وبنوا الجسور ووسعوا الطرق ، وأقاموا الخانات والفنادق والأسواق. وتطورت الخدمات التجارية ، أكان ذلك من ناحية النظام المالي ، أو إقامة المؤسسات المصرفية والوكالات التجارية. ولم تنقطع في العصر المملوكي التجارة مع المدن الأوروبية ، وخصوصا الإيطالية ، التي عقدت اتفاقات مع الدولة ، وظلت أساطيلها تجوب البحر ، وتؤم الموانىء ، التي أقام تجار أوروبا فيها «قيسريات» وخانات ووكالات تجارية خاصة بهم. كما أن سيل الحجاج إلى الأماكن المقدسة لم ينقطع.
ويلفت النظر اهتمام سلاطين المماليك وأمرائهم ببناء الأماكن الدينية والمعاهد التعليمية والمؤسسات الاجتماعية. ويتضح من المصادر أن هؤلاء نظروا إلى رجال الدين والفقهاء والمشايخ ورجال العلم نظرة إجلال. ولعل كونهم طبقة عسكرية حاكمة ، تملك الكثير من المال والقليل من المعرفة في هذه الحقول ، جعلها تعوّض عن هذا النقص في البذل السخي لإقامة هذه المنشآت. ولقد أكثر المماليك من هذه المباني ، وأغدقوا عليها الأوقاف ، وبذلوا الأموال الوفيرة على تجميل عمارتها ، وتزيين داخلها وظاهرها. وانتشر ذلك في جميع أنحاء ملكهم ، ونالت القدس قسطا وافرا منها. فازدهرت فيها الدراسات القرآنية والفقهية واللغوية والرياضية والطبية.