وبعد دخول التتر إلى بغداد ، رحل الكثيرون من رجال العلم في بغداد إلى القدس ، وأقاموا فيها ، فاستوعبتهم المؤسسات ، وتبعهم طلاب العلم. وإضافة إلى هذه المؤسسات ، اعتنى المماليك بتزيين المدينة ـ مداخلها ومساجدها وقبابها وعماراتها وسبل الماء فيها وأسواقها ... إلخ.
ومعظم أروقة الحرم القدسي الشريف بنيت في أيام المماليك. كذلك ، وإضافة إلى المدرستين المعروفتين ـ الصلاحية والمعظمية (اللتين بناهما صلاح الدين والمعظم الأيوبيان) ، أقام المماليك عددا كبيرا من المدارس ، منها : الدوادارية والوجيهية والسلامية والكريمية والتنكزية والأمينية والملكية والفارسية والخاثونية والباسطية والحسنية والعثمانية والجوهرية والأشرفية والجاولية. ومن الزوايا الصوفية ، بنى المماليك الخانقاه الفخرية وزاوية المغاربة والزاوية البسطامية والرباط المنصوري ورباط علاء الدين البصير. ويذكر أن المماليك اهتموا بالمشايخ الصوفية ، وعرف منهم الشيخان ـ المجنون والياس ـ منذ أيام بيبرس ، وبرز بعدهما كثيرون. وخان السلطان وسبيل قايتباي ، من المعالم الجميلة. وفي القدس عدد من الحمامات ، يعود بناؤه إلى أيام المماليك ، وكذلك البيمارستانات والأسواق والفنادق ... إلخ.
لقد وصل المماليك إلى السلطة كطبقة عسكرية ، وبصعوبة اكتسبوا شرعية الحكم من خلال التصدي للفرنجة ، من جهة ، وللمغول ، من جهة أخرى ، وحققوا نجاحات كبيرة على الصعيدين. وعندما انحسر الغزو المغولي ، وتراجع الخطر الفرنجي ، ظل المماليك في السلطة ، وأوغلوا في تنظيمهم العسكري ، ولكن من دون مشروع قتالي يبرر ذلك. وإذ استطاعوا بصورة عامة أن يقمعوا كل تحرك شعبي ضدهم ، فإنه في غياب المعايير العسكرية ، وبالتالي الأحقية في الوصول إلى الموقع الأول ، دبّ الخلاف في صفوفهم ، واستشرت الصراعات بين الطامعين بالسلطة من قادتهم. فبعد السلاطين الكبار الأوائل ، الذين تميّزوا بقدراتهم العسكرية والتنظيمية ـ قطز وبيبرس وقلاوون والأشرف خليل بن قلاوون والناصر محمد بن قلاوون ـ توالت سلسلة طويلة من سلالة قلاوون على السلطنة ، لم يتميّز أفرادها بكفاءات ملحوظة ، وبدأت دولتهم في الهبوط.
ففي أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، الذي اعتلى العرش ثلاث مرات ، إذ خلعه الأمراء مرتين ، وحكم فترة أطول من أي مملوك آخر (١٢٩٣ ـ ١٢٩٤ و ١٢٩٨ ـ ١٣٠٨ و ١٣٠٩ ـ ١٣٤٠ م) ، ألحق المغول (الإيلخانيون) هزيمة بالجيش المملوكي في ٢٣ كانون الأول / ديسمبر ١٢٩٩ م ، إلى الشرق من حمص. وكان ذلك