والكفاية من مصادر المياه ، والأحوال الطبيعية الملائمة لنمو النباتات الحبية ، كالقمح والشعير والعدس والكرسنة وغيرها ، وكذلك الغطاء النباتي لرعي بعض أصناف الحيوانات اللبونة مثل البقر والماعز والغنم والغزلان وغيرها ، وبقي عليه أن يعمل ذهنه في استغلال محيطه بجهده وأدواته ، ويبدو أنه نجح في ذلك.
ونحو ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. انتشرت على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، وما يليه من مناطق في الشرق الأدنى القديم ، وصولا إلى العراق ، حضارة جديدة هي الحضارة النطوفية ، نسبة إلى وادي النطوف ، غربي القدس ، إذ اكتشف في مغارة شقبة الموقع النموذج لهذه الحضارة. ويعتقد حتى الآن أنها انطلقت من فلسطين ، ومن المنطقة الساحلية وجبال القدس بصورة خاصة ، وشملت غور الأردن وشرقه ، وكذلك لبنان وسورية والعراق ، حيث اكتشفت الرقائق الصوانية التي صنعت منها مناجل الحصاد وأحجار الرحى والجواريش والمدقات لطحن الحبوب وسحق مواد التخضيب ، كما وجدت المطامير لتخزين الحبوب.
وبرع النطوفي بأساليب تكيفه وفق محيطه ، إذ إنه فضلا عن المسكن والملبس وتنظيم حياته المجتمعية الجماعية من حيث تقسيم العمل والتخصص ، طوّر تقنيات إنتاج أدوات عمله فأصبحت ذات جدوى عالية. وتتميز أغلبية الأدوات الصوانية النطوفية بحجمها الصغير وبأشكالها الهندسية المتعددة. وبما أنها تصنّع من الشظايا على هيئة شفرات صغيرة ، ذات حد واحد مستقيم ، يقابله جانب هلالي الشكل من الخلف ، أو ذات حدّين متوازيين ، وتركّب في أنصبة من الخشب أو العظم أو القرن ، وتسوّى بحيث تؤدي عملها بنجاعة كبيرة ، فقد أصبحت تفي بمتطلبات الحياة المتزايدة لهذا الإنسان في تحوّله من نمط اجتماعي ـ اقتصادي إلى آخر.
وتعتبر الفترة النطوفية الخطوة الأولى على طريق المجتمعات الزراعية في بلاد الشام ، كونها أنتجت حضارة محلية أصيلة ، ذات طابع خاص ، انتشر تأثيرها في المنطقة ، فغطى سورية ولبنان وصولا إلى وادي النيل ، في موقع بالقرب من مدينة حلوان. ومع الانتقال إلى حياة الاستقرار ، انقضى عصر الثقافات ذات الانتشار العالمي الواسع الناجم عن التنقل الدائم ، والاحتكاك المستمر والتفاعل ، سلبا أو إيجابا. وبناء على ذلك ، راحت تقوم حضارات محلية في أصلها وفرعها ، كانت كلما تقدمت اتخذت طابعا أكثر استقلالية وتمحورا حول الذات ، أدّى إلى تطور متواصل ومتدرج. وقد تضافرت لإنجاز هذه النقلة الحضارية النوعية في الشرق الأدنى ، ونعني بذلك إنتاج الغذاء عبر الزراعة وتدجين الحيوانات ، فضلا عن الصيد والالتقاط ، عوامل بيئية وإنسانية معا. فالبيئة وفرت للإنسان ، وبصورة طبيعية ، الحبوب والنباتات