إلى مصر في خدمة علي بك الكبير ، ثمّ إلى بلاد الشام ، حيث تحوّل إلى خدمة واليها. وعهد إليه ، مع مماليكه ، حماية بيروت (١٧٧٢ م) ، بإمرة يوسف الشهابي ، أمير جبل لبنان. لكنه ما لبث أن تفرد بحكمها ، من دون أن يبالي بضغط الباب العالي عليه للانضباط. ثم هرب من بيروت عندما هاجمها الأسطول الروسي ، ولجأ إلى ظاهر العمر موقتا ، وسريعا انتقل إلى دمشق. وكان في عداد القوة العثمانية التي قضت على حكم الزيادنة. ومكافأة له على قتل ظاهر العمر ، عيّن حاكما على عكا. واكتسب الجزار شهرته بصموده داخل أسوار عكا المنيعة أمام حملة نابليون على بلاد الشام ، وبالتالي دوره في إفشال تلك الحملة. ونتيجة ذلك ، زاد في تحديه للباب العالي ، وعمل على توسيع نفوذه في بلاد الشام ، فإصبح واليا على دمشق ، في فترات متقطعة ، بفضل قوته العسكرية وجبروته ، وبالتالي نجاحه في فرض هيبته على الحكام المحليين في بلاد الشام.
ويعبر بروز الجزار واتساع نفوذه عن هبوط قوة الحكام والزعماء المحليين في بلاد الشام ، وحلول المماليك محلهم ، أسوة بما جرى في مصر والعراق. وتفرد هؤلاء المماليك بالسلطة في مناطق ولايتهم ، هو تعبير عن ضعف الدولة المركزية ، التي في صفوف جيشها نشأوا ، وعبره وصلوا إلى مواقع متقدمة. وقد اضطرت السلطة المركزية إلى الاعتراف بهم ، لأنهم كانوا أقدر منها على التصدي للقوى المحلية النازعة إلى الاستقلال والانفصال عن السلطنة. وتميّز حكم هؤلاء الماليك بالعسف والبطش. وكطبقة عسكرية حاكمة ، أعادوا البلاد إلى الحالة التي كانت ترزح تحتها في نهاية حكم المماليك البرجية في القرن الخامس عشر. ولأنهم أقاموا جيوشا خاصة من المرتزقة ، فقد احتاجوا إلى أموال طائلة لتسديد نفقاتهم واسترضاء عساكرهم ، فأسرفوا في فرض الضرائب واستعمال القوة لجبايتها ، الأمر الذي أرهق كاهل الناس وأفقرهم. والإيجابية الوحيدة لحكمهم كانت التصدي للغزو الخارجي ، ومن موقع المصلحة الذاتية ، كما فعلوا في مصر وفلسطين في أثناء حملة نابليون ، وكما فعل أقرانهم القفقازيون في العراق تجاه حكام إيران.
وما لبث الجزار أن استقر بعكا (١٧٧٥ م) ، حتى راح يوسع نفوذه. ففي سنة ١٧٧٦ م أخذ ولاية صيدا ، وتوجه فورا إلى تصفية بقايا الزيادنة ، فأخذ قلاعهم ، الواحدة تلو الأخرى ـ شفاعمرو وصفد ودير حنا .. إلخ. وكان أشدّ أبناء ظاهر العمر صلابة في مقاومة الجزار ، علي ، الذي تحصن في قلعة دير حنا ، إلى أن هزم. ثم تحرك الجزار ضد مشايخ الشيعة في جبل عامل ، فقتل الشيخ ناصيف نصار ، وأخذ منه مدينة صور ، ثم أخذ بيروت من أمير جبل لبنان ، يوسف الشهابي ، وعزله ، ونصّب