مكانه الأمير بشير الشهابي الثاني ، فأدخل البيت الشهابي في الصراعات الداخلية لإخضاعه لنفوذه وإضعافه. وفي ذروة قوته ، انتزع ولاية طرابلس ، وأخيرا حقق حلمه في ولاية دمشق أربع مرات (١٧٨٥ و ١٧٩١ و ١٧٩٨ و ١٨٠٣ م). ولم تجد معه محاولات الباب العالي كلها لعزله ، فقد أصبح له أعوان في إستنبول ، كما أن السلطنة كانت مشغولة بالصراع مع حاكم إيران الأفغاني ، كريم خان زند الذي حاول التوسع غربا في العراق.
واتخذ الجزار من مدينة عكا ، التابعة لولاية صيدا ، مقرا له. وبانتزاعه مدن الساحل كلها من جيرانه ، وضمها إلى ولايته ، انتقل مركز الثقل في بلاد الشام إلى الساحل ، فتراجع الداخل ، بما فيه دمشق ذاتها. وقد تزامن حكم الجزار في بلاد الشام مع تفاقم «المسألة الشرقية» ، وبالتالي الصراع الأوروبي ـ أولا ، بشأن الامتيازات والنفوذ في أراضي السلطنة العثمانية المتهاوية ، ولاحقا على اقتسامها. وفي أيامه ، وقع الحدث الأهم في العلاقة بين الشرق الأدنى وأوروبا ، منذ الحملات الصليبية قبل سبعة قرون تقريبا ، وهو حملة نابليون بونابرت على مصر ، ومنها على بلاد الشام. ونظرا إلى تمركزه على الساحل ، عقد الجزار علاقات تجارية ، وبالتالي سياسية مع أوروبا. وإزاء حملة نابليون ، توصل الجزار إلى اتفاق مع بريطانيا. فكان للأسطول البريطاني دور في صموده بعكا ، وإحباط الحصار الذي فرضه نابليون عليها. وعدا السمعة السيئة ، وما عرف عنه من عسف وبطش ، فقد ترك الجزار آثارا باقية في عكا حتى اليوم ـ الأسوار الضخمة والقلعة والمسجد والحمام والأسواق ، وغيرها.
في إطار المسألة الشرقية ، وبالتالي العلاقات بين الشرق الأوسط وأوروبا ، والتنافس بين دول أوروبا بشأن مناطق النفوذ وموارد المواد الخام والأسواق ، وذلك بعد الثورة الفرنسية ، تعتبر حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (١٧٩٨ ـ ١٨٠١ م) منعطفا حادا. فمعها انتقل التنافس بشأن تقسيم السلطنة من الإطار التآمري ، السياسي والدبلوماسي ، وعقد الصفقات السرية ، وتفعيل الضغوط الاقتصادية وغيرها ، واستغلال المشكلات الداخلية والتناحر بين الكيانات المتجاورة ، إلى الاحتلال المباشر. وفي هذه الفترة ، وبعد بسط نفوذها على الهند ، وتعاظم قوتها العالمية ، أصبحت بريطانيا القوة النافذة في أوروبا ، فاحتدم التناقض بينها وبين فرنسا ، التي بعد الثورة (١٧٨٩ م) ، راحت تطمح إلى القيام بدور مميّز في أوروبا والعالم. وبعد فشلها في التصدي لبريطانيا في أوروبا ، وعدولها عن مشروع غزو بريطانيا ، الذي أوكل أمر تنفيذه لنابليون نفسه ، تبلورت في فرنسا فكرة الحملة على مصر وبلاد الشام. وقد