التصدي لمشروعه ، وقطع الطريق على تجسيده ، كونها لم تكن ترغب في قيام دولة شرق ـ أوسطية فتية على أنقاض السلطنة العثمانية المتهاوية.
لقد أظهر الجيش المصري قدرات عسكرية كبيرة في مواجهة الجيش العثماني ، وكذلك في التصدي للثورات المحلية ، واستطاع أن يفرض الأمن والنظام ، ويكبح تجاوزات الزعماء المحليين ومشايخ القبائل. فمنع الزعيم أبو غوش من جباية الضريبة على الطريق بين يافا والقدس ، وألزم السكان دفع الضرائب المستحقة والالتحاق بالجيش عبر التجنيد الإلزامي ، وتسليم أسلحتهم ، كما نجح إلى حد معين في تفعيل جهاز الدولة ومنع الرشوة في المحاكم. ورفع إبراهيم التمييز عن الأقليات الدينية ، وحاول تطوير المرافق وإقامة عدد من المشاريع الصناعية ، كاستخراج الفحم والحديد من جبال لبنان. ولبناء الأسطول المصري قطع إبراهيم باشا الأشجار في مساحات واسعة من بلاد الشام ، وخصوصا ، في غابات جبل لبنان. لقد وضع بدايات لم تتح له فرصة تطويرها ، لكنها تركت آثارها في المرحلة اللاحقة في ميادين متعددة.
وعلى نقيض سابقيه من الباشوات ، سمح إبراهيم للبعثات التبشيرية المسيحية بممارسة نشاطها بحرية كبيرة ، ومنحها الإذن بإقامة مؤسسات تعليمية وثقافية. وفي سنة ١٨٣٨ م سمح لبريطانيا بفتح قنصلية دائمة في القدس ، الأمر الذي شكل سابقة في العرف القائم ، إذ كانت القنصليات تقام في المدن الساحلية ، وتعنى بالشؤون التجارية. وفي الواقع ، ومنذ زمن طويل ، كانت القنصليات قد تراجعت في عددها وأهميتها مع تراجع الأهمية التجارية لمدن الساحل السوري ، وراح رجال محليون يتولون المهمة. أمّا في أيام إبراهيم باشا ، وخصوصا بعد انسحابه من البلاد ، فقد راحت القنصليات تؤدي في الأساس دورا سياسيا. ولم تمض فترة قصيرة حتى فتحت دول أوروبية متعددة قنصليات لها في القدس ، بما فيها الولايات المتحدة. وراح قناصل هذه الدول يتدخلون في كل شاردة وواردة من شؤون الحكم في البلاد.
وعلى الرغم من قصر فترة الحكم المصري في فلسطين (١٨٣١ ـ ١٨٤٠ م) ، فقد فتحت مرحلة جديدة في تاريخها ، إذ وضعت حدا لحالة الفوضى التي سادت البلاد خلال فترة طويلة ، كما أسست لعدد من الإصلاحات في الفترة اللاحقة ـ فترة «التنظيمات» في السلطنة العثمانية. فعلى رأس الحكم وقف إبراهيم باشا ، الطامح لإقامة دولة عربية حديثة ، وتحت إمرته جيش قوي ، كان العمود الفقري للحكم ، وأداته لتنفيذ الإصلاحات. وإلى جانب إبراهيم باشا ، تولى شريف باشا ، صهر محمد علي ، الجانب الإداري في الحكم ، وله ممثلين (متسلمين) في الأقضية جميعها هم حكامها الإداريون ، بصفة موظفين مدنيين ، جندوا على العموم من أوساط السكان