وقد شهدت بلاد الشام موجة كبيرة من الهجرة البدوية إليها ، جاءت من الجزيرة العربية ، وكانت أبرز قبائلها عنزة ، القادمة من نجد ، والتي انتشرت في البادية السورية. وفي شرقي الأردن ، تقدمت قبيلة بني صخر الكبيرة شمالا ، ودفعت قبيلة العدوان إلى جبال البلقاء. وهاتان القبيلتان قامتا بغزوات متكررة على فلسطين ـ غربي نهر الأردن. وقبيلة أصغر ـ التعامرة ـ كانت تتجول بين بيت لحم والبحر الميت. وفي النقب ومنطقة غزة وبئر السبع ، انتشرت عدة قبائل ـ التياهة والترابين والعزازمة وغيرها. وإضافة إلى هذه القبائل الكبيرة استقر في فلسطين عدد من القبائل الأخرى ، تأرجح بين الرعي والزراعة ، وعمل أحيانا كقوة شرطة حدود لدى الحكومة في مواجهة تجاوزات القبائل البدوية الأخرى ، ومنها الهنادي في شمال فلسطين. وإذ استطاع إبراهيم باشا فرض هيبته على القبائل لفترة قصيرة ، فإنها بعد انسحابه انتهزت الفرصة لاقتناص جزء من التركة ، الأمر الذي تسبب بمشكلات كبيرة للحكومة العثمانية في بلاد الشام عامة.
وبعد الانسحاب المصري ، استغلت القبائل الفراغ الذي تركه ذلك الانسحاب السريع ، من جهة ، وعجز الحكومة العثمانية الجديدة عن فرض سيطرتها على الريف وأطراف الصحراء ، من جهة أخرى ، وتقدمت لملء الفراغ ، بطريقتها الخاصة. وكانت القرى الزراعية في الريف الضحية الأولى لحركة القبائل تلك. فوقعت مناطق واسعة تحت رحمة مشايخ القبائل ، الذين فرضوا على سكانها «الخوّات» ، لقاء الحماية الاسمية ، التي لم تتوفر فعلا في الأغلب. وشاع بين الفلاحين قول «حاميها حراميها». ولم تنج المدن من تجاوزات القبائل المحيطة بها ، والتي لم تتورع عن محاصرتها وفرض الأتاوات عليها. وحتى مدن كبيرة مثل حلب وحمص وحماة ، لم تفلت من أيدي تلك القبائل ، أو تسلم من تدخل المشايخ في شؤونها الداخلية. وفي فلسطين ، تعرضت مدن مثل بيت لحم وأريحا وغزة ، لممارسات شبيهة ، كما دخلت القبائل على خط الصراعات بين الزعماء المحليين ، فعززت بذلك وجودها في محيط القرى والمدن ، وكذلك مواقعها في توازن القوى. ومن الأهداف الرئيسية لمشايخ القبائل كانت طرق التجارة ، سواء لفرض الخوّات ، أو للنهب والسلب. وإزاء هذه الحالة من الفوضى التي جرّها سلوك القبائل المغالي في عدم الانضباط ، وقفت السلطة العثمانية عاجزة تماما.
وعلى العكس من الحكم المصري في بلاد الشام ، الذي كانت لديه سياسة واضحة وحازمة لفرض السيطرة والأمن على البلاد كافة ، لم يكن للحكومة العثمانية مثل هذه السياسة. وأسلوب الترغيب والترهيب الذي اتبعته هذه الحكومة مع القبائل