ومن هنا كانت الأحداث الدامية في نابلس (١٨٥٦ م) ، والتي كانت موجهة ضد الحاكم العثماني وقناصل الدول الأجنبية والبعثات التبشيرية والمسيحيين المحليين. وكذلك كان الحال في جبل لبنان ، ومن بعده دمشق (١٨٦٠ م). واستمر عداء هذا التيار للإصلاحات التي سعى كل من السلطان عبد المجيد ، ومن بعده عبد العزيز ، لإدخالها.
فالتوجهات التي تبناها محمد علي في مصر ، ومعاصره محمود الثاني في إستنبول ، والرامية إلى عصرنة الدولة ، حفزت تيار الإصلاح في الدولتين. وجاء عهد التنظيمات (١٨٤٠ ـ ١٨٧٦ م) في السلطنة العثمانية ليقوي هذا التيار ، ويدفع المعبّرين عنه إلى قمة السلطة. ولكن هذا التطور ، وبمقدار تصاعد وتيرته بدعم من المركز ، فقد ولّد ردة فعل محافظة ، راحت هي الأخرى تتصاعد بالوتيرة نفسها. وباعتلاء عبد الحميد الثاني العرش في إستنبول (١٨٧٦ ـ ١٩٠٩ م) ، وقعت الردة ، وانقلب السلطان على التنظيمات ، وعلى أدواتها ورجالها. فألغى الدستور ، وحل البرلمان ، وأبطل الإصلاحات التي أدخلها أسلافه. وقد استفاد عبد الحميد من فشل الإصلاحات في تحسين أوضاع السلطنة الاقتصادية ، أو في كبح التدخل الأوروبي الذي أدّى إلى إفلاس الدولة. واستبدل الحكم البرلماني بآخر استبدادي ـ فردي ومطلق. وجعل بطانته من أشد رجال الدين محافظة ، وأدوات سلطته من أكثر رجال الحكم رجعية. وبذلك دفع الإصلاحيين ، وجلهم من الأتراك ، إلى تشكيل الجمعيات السرية والعمل على قلب نظام الحكم ، أمّا رموز العلمانية ، وهم في الأساس من المثقفين ، وأغلبيتهم من المسيحيين ، فقد اضطر الكثيرون منهم إلى الهجرة والاستقرار بالخارج ـ مصر وباريس وجنيف ولندن ـ لمتابعة نشاطهم الأدبي والفكري والسياسي.
وكانت ردة فعل التيار المحافظ سلبية تجاه المؤثرات الفكرية والاجتماعية الأوروبية ، وبالتالي تجاه التنظيمات والإجراءات الناجمة عنها في نظام الحكم ، وخصوصا على صعيد التشريعات. وإذ رأى رموز هذا التيار خطر التدخل الأوروبي ، ماديا وروحيا ، فقد ذهبوا إلى أن إحياء قواعد الإسلام في الدولة والمجتمع كفيل باستنهاض السلطنة وصمودها في وجه أوروبا. وعلى العموم ، نظر هؤلاء إلى الماضي ، ومنه استنبطوا علاج أمراض الحاضر ، مؤكدين إمكان استعادة الماضي الزاهر بالعودة إلى مرتكزاته الفكرية والأخلاقية والمسلكية ... إلخ. فبالنسبة إليهم كان المخرج من المأزق الحالي يكمن في العودة إلى المنطلقات التي أدّت إلى امتلاك عوامل القوة في الماضي ، وليس بالتطلع إلى المستقبل واستنباط الوسائل التي تساعد على درء أخطاره. والحاضر بالنسبة إليهم غير مقبول ، لكن لا يجوز رفضه بالكامل ،