لأنه الحلقة التي تربط الواقع الملموس بالماضي ، وبالتالي القادر على وصله بالمستقبل. ومن هنا ، وباستعمال أداة قياس من الماضي ، يجب تطهير الحاضر من الشوائب ، ليكون المستقبل مزدهرا كما في الماضي. وبناء عليه ، ضرورة العودة إلى التراث ، واستخلاص العبر منه ، ليمكن النهوض بالحاضر لمواجهة الخطر الأوروبي.
وشأنهم شأن المحافظين ، كان الإصلاحيون يعارضون المؤثرات الأوروبية الخارجية ، ويهدفون من نشاطهم إلى حماية الإسلام ودولته ومؤسساته ، ويرفضون الواقع الذي آلت إليه شؤون «الأمة» الإسلامية. ولكنهم على عكس المحافظين ، رأوا أن العلاج يتطلب الخروج من النهج التقليدي في رؤية القضايا والتعامل معها ، وبالتالي فتح باب الاجتهاد لما يجب عمله ، بينما أداة القياس هي «مصلحة الأمة». وتمحورت نقاشات رموز هذا التيار في الدين والسياسة ، والهدف المركزي لنشاطهم ، الفكري والعملي ، هو إحياء الإسلام ودولته. وينجم عن ذلك مواجهة الغرب ، بما تنطوي عليه من ضرورة تقوية الأواصر بين الشعوب الإسلامية ، وصولا إلى وحدة «الأمة».
وفي الواقع ، وبسبب عقلانيته ، أصاب هذا التيار نجاحا أكبر من المحافظين. وبرز فيه جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩ ـ ١٨٩٧ م) ، وتلميذه محمد عبده (١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ م) في مصر. أمّا في سورية فقد برز الشيخ طاهر الجزائري (١٨٥١ ـ ١٩٢٠ م). وتتلمذ على أيدي هؤلاء وغيرهم عدد كبير من علماء الدين الإصلاحيين ، كما كان لهم أتباع من أوساط واسعة خارج إطار المؤسسات الدينية.
وفي مقابل هذين التيارين ـ المحافظ والإصلاحي ـ راح يتبلور تيار أكثر جذرية ، من مثقفين علمانيين ، يحملون نظرة مستقبلية ، معزولة تقريبا عن الماضي. ورفض هؤلاء الواقع القائم ، أسوة بالآخرين ، لكنهم افترقوا عنهم بمنظورهم القائل إن علاج الأوضاع المتردية في الشرق ، يكمن في تبني الأفكار ومناهج العمل الأوروبية. وفي هذا التيار العام ، ظهرت مدارس متعددة بهذه النسبة أو تلك. وكان أبرزها اثنتان بصورة عامة : الأولى ، وأعضاؤها في الأغلب من أبناء الطوائف المسيحية ، اندفعت أكثر نحو التماهي مع الحضارة الأوروبية ، بأفكارها وأنماط عملها ، والثانية ، وأعضاؤها على العموم من المسلمين الذين تثقفوا بالغرب ، أرادت الاقتباس من هذا الغرب قدر الإمكان ، ولكن مع الحفاظ على الهوية الذاتية والتمايز عنه. وإذ راحت الفجوة تتسع بين هاتين المدرستين في نهاية القرن التاسع عشر ، فإنها عادت وتقلصت عشية الحرب العالمية الأولى ، عندما شارك أفراد هاتين المدرستين في الجمعيات السياسية السرية ، التي تشكلت حول شعارات وطنية ، تنادي بالاستقلال