كان ذلك عبر التعاون مع الدول الأوروبية. ورأى المعبرون ، فكريا وسياسيا ، عن الحركة الوطنية في بلاد الشام ، أن استمرار الحكم العثماني يكبح تطور الأقطار العربية ، اقتصاديا وحضاريا وثقافيا. وتعزز الشعور المعادي للحكم العثماني مع طغيان الاستبداد في عهد عبد الحميد ، من جهة ، وتنامي النزعات «الطورانية» (القومية التركية) في أوساط الإصلاحيين الأتراك ، ودعوتهم إلى توحيد شعوب السلطنة على أساسها ، الأمر الذي يعني إلغاء الخصوصية العربية ، من جهة أخرى. في المقابل ، وتحت تأثير الأفكار الأوروبية عن حرية الفرد والديمقراطية ، ازداد التذمر والتململ بين العرب تحت نير الحكم العثماني المستبد. وساعد على تنامي الشعور بالغبن والظلم تردي الأوضاع الاقتصادية ، وسوء تصرف الجهاز الحكومي ، وإلغاء الدستور ، وتعليق البرلمان ، وطرد أعضائه العرب من إستنبول ، ومطاردتهم. ولكن الوطنيين في بلاد الشام تعاطفوا مع «ثورة عرابي باشا» في مصر ، ومع «حركة المهدي» في السودان.
ونتيجة الاستبداد الحميدي والردة على الإصلاحات وكبت الحريات ، الخاصة والعامة ، والإرهاب على أصحاب الفكر ونشطاء العمل السياسي ، تشكلت جمعيات سياسية سرية ، من مثقفين ورجال حكومة وضباط في الجيش ودبلوماسيين ، تعارفوا في النوادي الأدبية التي أقيمت في تلك الفترة. وفي هذه الجمعيات تركز النقاش حول السياسة والوطنية والحكم ، ومن خلال النشاط فيها تحول المثقفون إلى ثوريين ، يعنون بالجانب العملي من السياسة ، وليس النظري فقط. وبينما تبلور حزب سياسي في مصر بزعامة مصطفى كامل (الحزب الوطني) ، فإن هذه الجمعيات في بلاد الشام لم تتحول إلى أحزاب ، لكنها مهدت الطريق أمام تشكل أحزاب متعددة لاحقا. وقد عبرت المنشورات التي وزعتها جمعية سرية صغيرة (١٨٧٨ ـ ١٨٨٠ م) ، تأسست من حلقة حول بطرس البستاني (١٨٧٥ م) ، عن أهداف الحركة الوطنية في بلاد الشام. ودعت المنشورات إلى وحدة «سورية الكبرى» ، وإلى حصولها على الحكم الذاتي ، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية ، ورفع القيود عن حرية التعبير والمعرفة ، واقتصار النشاط العسكري للمجندين السوريين على حدود بلادهم ، من دون إرسالهم إلى جبهات القتال البعيدة ، وخصوصا مع روسيا ، إذ نشب القتال بينها وبين السلطنة في نهاية السبعينات.
واضطر الإرهاب الحميدي رموز هذه الجمعيات من الكتّاب والمفكرين إلى الهجرة إلى مصر ، مثل الدكتور فارس نمر وجورجي زيدان وإبراهيم اليازجي والأخوين تقلا وغيرهم. وازدادت الرقابة على المنشورات والنشاطات