في تقرير مجرى الأحداث ، أي العامل القائد في جدل العلاقة بين أطراف الصراع الذي نشب في فلسطين جرّاء المشروع الصهيوني.
وبإلقاء النظر إلى مسار الأحداث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وبصورة خاصة في نهايته ، تبرز أربع ظواهر متفاعلة ومتشابكة. وتفاعل هذه الظواهر في عملية صراعية ، أنتج الوضع القائم في المنطقة عبر تجليات سيرورة الصراع. فعلى الصعيد الاستراتيجي الأعلى ، احتدم التناقض بين ظاهرتين تشكلتا عبر فترة زمنية طويلة ، وراحتا تقتربان من حسم هذا التناقض بصورة جذرية ، وهما : ١) انحلال السلطنة العثمانية ـ آخر الإمبراطوريات الإسلامية من القرون الوسطى ـ وأثر ذلك في الأراضي الواقعة تحت حكمها ، فعلا أو ظاهرا ، وعلى مصير الشعوب المنضوية في إطارها ، رغبة أو قسرا ؛ ٢) تكالب الاستعمار الأوروبي على تقسيم أراضي السلطنة ، بعد أن ظلت قواه لفترة طويلة تعمل على تكريس نفوذها في تلك الأراضي ، عبر الامتيازات أولا ، ومن خلال التدخل المباشر والفظّ لاحقا. ففي نهاية القرن التاسع عشر تفاقمت أزمة الرأسمالية الأوروبية ، ومعها راحت تتصاعد محاولات المراكز الإمبريالية لتصدير أزمتها إلى الخارج ، فاصطدمت هذه المحاولات على أرضية تناقض المصالح ، وأدّت إلى الحرب العالمية الأولى وانحلال السلطنة العثمانية.
وعلى أرضية الظاهرتين السابقتين ، وليس بمعزل عنهما ، بل بالترابط والتواكب مع تجليات مسار حسم التناقض بينهما ، برزت ظاهرتان أخريان ، دخلتا بطبيعة الحال في تناقض تناحري بينهما ، لتنفي إحداهما الأخرى ، وهما : ١) ظهور الحركة القومية العربية ، على خلفية انحلال السلطنة العثمانية ، من جهة ، وتبلور الوعي الذاتي العربي لخصوصية الأمة العربية ، وبالتالي ضرورة التعبير عن هذه الخصوصية في دولة قومية موحدة ، من جهة أخرى ؛ ٢) بروز الحركة الصهيونية السياسية ، ساعية لإقامة دولة يهودية في قلب الوطن العربي ، وبالتعاون مع الدول الاستعمارية ، وبالتالي من خلال المشروع الإمبريالي العام إزاء المنطقة. وفي هذا الإطار يبرز الدور الصهيوني الذي أوكلت إليه من خلال مشروعه ، ولاحقا عبر كيانه السياسي ، مهمة المساهمة في التصدي للحركة القومية العربية ، والعمل على ضربها وإحباط نضالها من أجل الاستقلال والوحدة ، وذلك عن طريق بناء الكيان الصهيوني الاستيطاني كقاعدة عدوانية ، همّها سواء بالتدخل المباشر أو المداور ، الحؤول دون تحقيق الحركة القومية العربية لأهدافها ، وبناء عليه ، ترسيخ واقع التفتت والتبعية في العالم العربي.
إن الربط بين هذه الظواهر الأربع ، أخذا في الاعتبار مجمل المتغيرات في تلك المرحلة على ساحة الوطن العربي ، سواء نتيجة التطورات الداخلية فيه ، أو المؤثرات