هؤلاء المفكرين رجال السياسة اليهود ، ممن كانوا منخرطين في مؤسسات الدولة والعمل في مرافقها ، وممن رأوا في هذه الأفكار حلا للمسألة اليهودية ، وبالتالي إخراجا لهم من الإحراج الاجتماعي ، بسبب أصولهم اليهودية ، وفرصة يقدمون فيها خدماتهم «اليهودية» للمؤسسة الحاكمة في بلادهم ، تبريرا لمواقعهم فيها إزاء أترابهم من غير اليهود ، وخصوصا أنهم ، بسبب يهوديتهم ، لم يتمتعوا في نظر هؤلاء الأتراب باحترام كبير.
وبصمات الاستعمار واضحة في المشروع الصهيوني ، وعبر مراحله المتعددة ، سواء لناحية الفكر أو الممارسة. والنخب اليهودية الصهيونية في تقديمها هذا المشروع إلى التجمعات اليهودية أسبغت عليه حلة يهودية ، ليصبح مستساغا لسكانها. ونظرا إلى افتقار هذا المشروع إلى قاعدة شعبية في تلك التجمعات ، فقد استندت النخب الصهيونية في نشاطها إلى دعم بؤر محددة في المراكز الإمبريالية ، وتنقلت بين تلك المراكز ، تعرض عليها الخدمات ، عبر توطين اليهود المهجرين من مواطنهم الأصلية في المواقع التي تخدم مصالح المركز المعني. وعندما نالت تلك النخب الموافقة الرسمية على خططها ، توجهت إلى الجماعات اليهودية لتجنيدها في خدمة المشروع الصهيوني ، بحيث تكون عمليا مادته. وبذلك طال تآمر تلك النخب الجماعات اليهودية قبل أن يصل إلى غيرها. وحتى بعد أن تولت قيادة العمل الصهيوني ، ظلت مشكلتها الرئيسية مع اليهود أنفسهم لفترة طويلة ، ولذلك لم تتورع تلك النخب عن اللجوء إلى الأساليب الملتوية لإكراههم على الهجرة إلى فلسطين تحديدا ، والاستيطان فيها وفق البرنامج الصهيوني ـ الإمبريالي.
وبعد أخذ ورد ، التقى الشريكان ـ الصهيونية العالمية والاستعمار ـ وكل منهما لأسبابه الخاصة ومن زاوية نظره إلى المشروع المشترك ، على اختيار فلسطين قاعدة للاستيطان الاستعماري. فبالنسبة إلى الشريك الأصغر ـ الحركة الصهيونية ـ كان للتراث اليهودي وعلاقته بفلسطين الأثر الحاسم في تحديد الرقعة الجغرافية التي سيقوم عليها الاستيطان (الثكنة) ، بينما أدّى موقع فلسطين الاستراتيجي ، وخصوصا بعد العبر المستخلصة من حملتي نابليون ومحمد علي ، وحفر قناة السويس ، دورا حاسما في ذلك الاختيار. وبينما أرادها الشريك الأصغر والأضعف لبناء دولته اليهودية ، بحيث تكون باليهود ومنهم وإليهم ، أرادها الشريك الأكبر والأقوى قاعدة للعدوان على الأمة العربية. ولكي تكون قاعدة ملائمة للمشروع الصهيوني ، كان لا بدّ من إجلاء سكانها الأصليين وتهويدها ـ أرضا وشعبا وسوقا. وبذلك يتباين الاستيطان الصهيوني عن أترابه في روديسيا وجنوب إفريقيا ، كونه إجلائيا ، لا يرمي إلى استغلال