الاضطرابات التي حركها اغتيال القيصر الليبرالي ، ألكسندر الثاني ، على يد نفر من القوميين الروس في آذار / مارس ١٨٨١ م ، الأمر الذي نجم عنه اندلاع أعمال العنف والاضطهاد ضد اليهود في المدن الروسية ، لاتهامهم بالمشاركة في عملية اغتيال القيصر ، واستمرت حتى سنة ١٨٨٣ م. وقد لبّت النزعات المعادية لليهود في روسيا ، لأسباب اجتماعية ـ اقتصادية كانت تعاني منها روسيا في تلك المرحلة ، أعمال التنكيل بهم ، وصولا إلى حصر أماكن إقامتهم وفرض القيود عليها. وموجة الاضطهاد هذه حفزت النزعات الصهيونية لدى يهود روسيا ، ودفعتهم إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين ، من جهة ، وإلى الولايات المتحدة من جهة أخرى.
فإزاء إجراءات القمع الروسية ضد اليهود ، وجد بعض المثقفين منهم الفرصة المواتية للخروج ضد طروحات الاندماج التي ينادي بها مثقفون يهود آخرون مثل المؤرخ دوفنوف ، ويتبناها يهود نشيطون في الحقل السياسي. وأصدر الكاتب الصهيوني موشيه ليب ليلينبلوم (١٨٤٣ ـ ١٩١٠ م) كراسا بعنوان «بعث الشعب اليهودي في أرض أجداده المقدسة» (١٨٨٣ م) ، دعا فيه إلى اعتناق الصهيونية ، ورفض الاندماج كحل دائم للمسألة اليهودية. وتبعه الحاخام شموئيل موهيلفر (١٨٢٤ ـ ١٨٩٨ م) ، فقام بتأسيس أول جمعية لأحباء صهيون (١٨٨٢ م). ثم ما لبثت هذه الجمعيات أن انتشرت في رومانيا وألمانيا وبريطانيا والنمسا ، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية. وتتلخص أهداف هذه الجمعيات بالتالي : ١) تحقيق استعمار فلسطين على يد اليهود ؛ ٢) نشر الفكرة القومية بين اليهود وتعزيزها ؛ ٣) رفع شأن اللغة العبرية باعتبارها لغة قومية ؛ ٤) رفع مستوى الجماهير اليهودية من جميع النواحي.
وكان الطبيب اليهودي والكاتب الصهيوني ليو بنسكر (١٨٢١ ـ ١٨٩١ م) الأكثر تعبيرا عن النزعة الصهيونية الاستيطانية كحل للمسألة اليهودية في روسيا. وفي مواجهة طروحات الاندماج المتعددة ، التي راجت في تلك الفترة ، أصدر بنسكر كراسا بعنوان «التحرر الذاتي» (١٨٨٢ م) ، أصبح دليل عمل للمستوطنين من أحباء صهيون. وكان بنسكر جازما في طرحه بعدم إمكان اندماج اليهود في مجتمعاتهم ، وعلل ذلك بأسباب موضوعية متعلقة بتلك المجتمعات التي ترفض التعامل مع اليهود على قدم المساواة ، وبأخرى ذاتية تتعلق بعدم آهلية اليهود أنفسهم للاندماج. فاليهود في نظره عنصر مميّز ، لا يمكن دمجه في غيره من الأمم ، كما يعسر على أية أمة هضمه واستيعابه ، وبانعدام الوعي القومي لديهم ، يستحيل على اليهود تحقيق الوجود القومي. ومن هنا ضرورة خلق هذا الوعي ، كما يطرح بنسكر ، كخطوة أولى نحو