لتجسيد المشروع الصهيوني من دون ربطه عضويا ومصيريا بالمشروع الإمبريالي العام إزاء منطقة الشرق الأوسط.
ولد هيرتسل في المجر ، وكان والده تاجرا ميسورا ، قطع في نمط حياته شوطا على طريق الاندماج بمحيطه ، فنشأ ابنه على الثقافة الألمانية. وعندما انتقلت العائلة إلى فيينا ، درس هيرتسل القانون ، وظلت ثقافته اليهودية ضئيلة. وعمل بالمحاماة ، ومن ثمّ بالصحافة. وفي سنة ١٨٩١ م ، سافر إلى باريس كمراسل لصحيفة «نيوفراي برس» ، ليغطي أحداث محاكمة درايفوس ، الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي ، الذي اتهمه أقرانه بالخيانة. وتأثر هيرتسل بمجريات المحاكمة وردات الفعل المتناقضة عليها ، فاستعاد وعيه اليهودي ، وشغل بإيجاد الحل للمسألة اليهودية. وبداية رأى الحل في الاندماج ، وطرح على اليهود اعتناق المسيحية بصورة جماعية ، أو الالتحاق بالتيارات الاشتراكية. ولكنه سرعان ما عدل عن هذه الأفكار وتحول إلى الصهيونية ، مقتنعا باستحالة اندماج اليهود في مجتمعاتهم ، أو استيعابهم جميعا في أميركا. وبذلك خلص إلى نتيجة مفادها ضرورة إقامة «دولة يهودية» لهم ، ليس بالضرورة في فلسطين ، ولكن بالتأكيد من خلال التعاون مع الدول الكبرى ، وفي ظل حمايتها ودعمها ، لقاء الخدمات التي ستقدمها تلك الدولة اليهودية لمصالح الدولة الراعية.
وأسوة بسلفه من دعاة العمل الصهيوني ، توجه هيرتسل أولا إلى أثرياء اليهود لتمويل مشروعه الاستيطاني. واتصل بالبارون هيرش ، وكذلك بالبارون إدموند دو روتشيلد ، لإقناعهما باستثمار أموالهما في توطين اليهود في دولة مستقلة ، فلسطين أو الأرجنتين ، أو أي مكان آخر يتوفر حاليا ، ويتم ذلك عبر «شراء وطن» لهم. وكانت فكرة شراء فلسطين مسألة مطروحة بصورة جدية بين الصهيونيين. ولكن أفكار هيرتسل قوبلت بالاستخفاف من قبل الرأسماليين اليهود في أوروبا الغربية ، الذين اندمجوا تماما في الفئات السائدة ببلادهم ، وانخرطوا في مشاريعها الاستعمارية. وفي سنة ١٨٩٦ م ، جمع هيرتسل أفكاره واقتراحاته في كتاب بعنوان «دولة اليهود». وانطلق في أطروحته من أن معاداة السامية خصيصة حتمية لكل المجتمعات المعاصرة على تعدد نظمها. ولذلك انتهى إلى الاستنتاج بضرورة إقامة دولة لليهود. وحدد أدوات مشروعه : «جمعية يهودية» للإعداد السياسي والعلمي ؛ و «وكالة يهودية» للتنفيذ العملي ؛ و «براءة» من الدول الكبرى ، أو من إحداها على الأقل.
وكتاب هيرتسل «دولة اليهود» خليط عجيب من الأفكار القومية الغيبية ، والنظريات الاستعمارية الاسترجاعية ، والمشاريع الاستثمارية الاستغلالية ، مع ما يرافقها من طروحات عنصرية. فهو يجمع بين النزعة العرقية العنصرية