ولما تبخرت الآمال التي عقدها هيرتسل على وساطة قيصر ألمانيا لدى السلطان العثماني ، وبالتالي استجابة القيصر لتبني المشروع الصهيوني ، اهتز موقع المنظمة الصهيونية ، وتعالت داخلها الأصوات التي تساءلت عن صوابية السياسة التي ينتهجها هيرتسل في التركيز على استصدار البراءة الدولية من القوى الكبرى ، وحتى بشأن صحة الموقف المعارض للهجرة إلى فلسطين قبل الحصول على تصريح من السلطان العثماني. ولإنقاذ مشروعه وتبرير سياسته ، توجه هيرتسل إلى إستنبول لإجراء اتصال مباشر مع الباب العالي ، وعرض خدمات الحركة الصهيونية على السلطنة ، وخصوصا على صعيد سداد ديونها للدول الأوروبية. ولكنه فشل في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦ ـ ١٩٠٩ م) بالاستجابة لطلبه. وفي إستنبول سعى هيرتسل لاستغلال فساد جهاز الدولة العثمانية ، وبمساعدة أنصار الصهيونية في العاصمة ، عرض الرشاوى على كبار الموظفين ، للالتفاف على موقف السلطان ، الذي كان حازما في هذه المسألة.
وبعد فشل مساعيه في إستنبول ، توجه هيرتسل إلى بريطانيا ، إذ كانت الحركة الصهيونية قد عقدت مؤتمرها الرابع (١٩٠٠ م) في لندن ، بقصد التأثير في الرأي العام البريطاني ، وتعريفه بالصهيونية وأهدافها. والتقى هيرتسل (١٩٠٢ م) وزير المستعمرات البريطاني ، جوزف تشمبرلين ، الذي أبدى تعاطفا مع المشروع الصهيوني كما طرحه هيرتسل ، مبينا الفوائد التي ستجنيها بريطانيا من توطين اليهود في فلسطين. لكن تشمبرلين اقترح توطينهم في سيناء والعريش ، لقربهما من قناة السويس. وقبل هيرتسل الاقتراح ، لكن الدراسات أثبتت نقص المياه اللازمة للاستيطان محليا ، في حين رفضت الحكومة المصرية جرّ مياه النيل إلى تلك المنطقة. وعاد تشمبرلين (١٩٠٣ م) وطرح على هيرتسل الاستيطان في أوغندا (كينيا) ، وقبل هيرتسل ، لكن المؤتمر الصهيوني السادس (١٩٠٣ م) انقسم بشأن الموضوع ، وتأجل تنفيذ المشروع. ودافع هيرتسل عن قبوله المشروع على أساس أنه محطة انتقالية ، تقرب اليهود من فلسطين ، وتنقلهم لاحقا إليها. وفي المؤتمر السابع (١٩٠٥ م) ، بعد موت هيرتسل ، رفض ذلك المشروع جملة وتفصيلا ، وانحصر التركيز على فلسطين كقاعدة للاستيطان الصهيوني. وعلى الرغم من قبوله المبدئي بالعرض البريطاني إقامة المشروع الصهيوني في سيناء أولا ، ومن ثمّ في أوغندا ، لم يهجر هيرتسل فكرة البراءة الدولية على فلسطين. ومن أجل ذلك ، سافر إلى روسيا ، وقابل هناك وزير الداخلية ، بليفيه ، المسؤول عن حملات مطاردة اليهود في حكومة القيصر. وتمّ التفاهم على صفقة بين الطرفين بسرعة : وساطة روسية لدى الباب العالي لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين ، في مقابل