أن العامل الأكثر أثرا في تاريخها القديم هو وقوعها بين مركزي الحضارات التاريخية الأولى : وادي دجلة والفرات من جهة ، ووادي النيل من جهة أخرى. أمّا في العصور اللاحقة ، فقد كان لموقعها الاستراتيجي ومكانتها الدينية والطرق التي تتقاطع فيها وفي جوارها ، أثر كبير في صوغ تاريخها.
لكن فلسطين ، ومن موقعها الجغرافي أيضا ، لم تكن محط أنظار هجرات قبائل وشعوب للاستقرار بها ، ولا نقطة تبادل تجاري وحضاري فحسب ، بل كانت أيضا ممرّا للجيوش في حملاتها المتبادلة وساحة للمعارك بين العمالقة. لذلك ، وطوال تاريخها ، كانت فلسطين عرضة لضغوط سياسية من جميع الاتجاهات ، وكجزء عضوي من بلاد الشام ، ظلت عنصرا مهما في الصراعات أو التحالفات الداخلية فيها. وبينما كانت قبائل الصحراء تتوغل فيها ، وخصوصا عندما تكون السلطة المركزية فيها ضعيفة ، للإفادة من أراضيها والاستقرار والتحوّل إلى الزراعة ، كانت سواحلها عرضة لغزوات من البحر بهدف السيطرة على الداخل السوري ، الذي كانت له أهمية تجارية دولية طوال العصور. وبعد نشوء الإمبراطوريات الكبيرة في العراق ومصر أصبحت فلسطين ، ولفترات طويلة ، ممرا لجيوشها في صراعاتها بشأن السيادة والسيطرة على هذا الجسر الواصل / الفاصل بينها. وعلاقة فلسطين بهذين القطبين قديمة قدم التاريخ ؛ وبالنسبة إلى مصر فقد كانت قائمة منذ ما قبل التاريخ. فالطريق الذي يعبر سيناء مزروع بالمحطات والآبار لخدمة القوافل التجارية ، التي كانت سبيلا للتبادل الحضاري أيضا ، وخصوصا مع الجزء الجنوبي منها.
ومنذ أيام المملكة القديمة في مصر (الألف الثالث قبل الميلاد) ، رأى الفراعنة في فلسطين ، على الأقل في جنوبها ، سدّا يحمي بلادهم من جهة حدودها الضعيفة في الشمال الشرقي ، وعلى الخصوص إزاء تسلل القبائل الرحالة عبرها ، والتوغل في سيناء إلى وادي النيل ، فحاولوا تعزيز نفوذهم فيها ، وإن عبر حكام محليين. وقد تغير هذا المنظور جذريا بعد غزو الهكسوس لمصر ، ومن ثمّ طردهم منها ، أيام السلالة الثامنة عشرة ، التي كان أبرز فراعنتها تحتمس الثالث (١٤٦٨ ـ ١٤٣٦ ق. م.) ، الذي دمر قوة الهكسوس والكنعانيين في معركة مجدو ، واحتل المنطقة حتى نهر الفرات. وفي المقابل ، رأى فيها ملوك أشور وبابل وفارس خشبة القفز إلى مصر واحتلالها ، الأمر الذي تكرر مرات كثيرة. أمّا قوى البحر الأبيض المتوسط ـ اليونان والرومان ـ فقد أرادت السيطرة على فلسطين لتكريس هيمنتها على ذلك البحر من جهة ، وللتوغل في شرقه من أجل وضع اليد على ثروات البلاد الواقعة هناك من جهة أخرى. وفي المقابل ، رأت قوى الشرق ـ وخصوصا العرب ـ في فلسطين أقصر الطرق للوصول