إلى البحر وثرواته التجارية. ونتيجة هذه الأطماع المتضاربة ، وقعت فلسطين تحت حكم هذه القوة أو تلك ، ولفترات طويلة ، مباشرة أو مداورة ، عبر حكام محليين.
إلّا إنه عندما توفرت الظروف الموضوعية ـ غياب قوة خارجية مهيمنة ـ وتواكبت ذاتيا مع قيام حكومة قادرة على فرض الأمن الداخلي ، وبالتالي الاستقرار وصيانة الحدود في وجه الغزاة الصغار ، قامت في فلسطين ممالك استطاعت أن توظف ميزات البلد لمصلحتها. فقامت بدور الوسيط في التجارة الدولية ، كما أصبحت عنصرا فاعلا في السياسة الإقليمية ، سواء بالتحالف مع ممالك أخرى في بلاد الشام ، أو بالتناحر معها في صراع بشأن الموارد والسيطرة على الثروات ومصادرها. ويبرز ذلك في الكثير من الحالات : الهكسوس والعموريين والكنعانيين والإسرائيليين والفينيقيين ، وحتى الدولة الأموية والدولة الصليبية ، وصولا إلى إسرائيل الراهنة. فمن موقعها المتوسط بين شبكتي الطرق ـ البرية والبحرية ـ كان لفلسطين نصيب من التجارة الدولية ، كما في أيام سليمان ، وبعده في فترة ازدهار مملكة الأنباط ، وحتى في أيام مملكة أورشليم اللاتينية (الصليبية). وفي ظل الخلافة الإسلامية ، أصبحت فلسطين جزءا وسطا من دولة عظمى مترامية الأطراف ، وعنصرا مكملا لمحيطها ، متجاوزة كونها حلقة في شبكة بديلة للالتفاف على الطرق التي تمر بقلب الصحراء العربية ، في اتجاه البحر الأحمر.
وبإلقاء نظرة سريعة إلى تعاقب القوى التي حكمت فلسطين ، تبرز التقلبات في تاريخها السياسي ، خلال السنوات الأربعة الآلاف الماضية. فبعد فترة طويلة من النفوذ المصري ، ضعف هذا الحكم فيها خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وبدأت مرحلة ـ دامت نحو خمسة قرون ـ غابت فيها عن البلد الهيمنة الخارجية ، أسوة ببقية بلاد الشام. وفي هذا الفراغ من القوى الكبرى الإقليمية ، قامت ممالك محلية في كل بلاد الشام ، بما فيها فلسطين : الفلسطيون والفينيقيون والكنعانيون والإسرائيليون والأراميون والعمونيون والمؤابيون والأدوميون وسواهم. وفي فلسطين قامت مملكة داود وسليمان في بداية الألف الأول قبل الميلاد ، لكنها ما لبثت أن انقسمت إلى مملكتي يهودا وإسرائيل (نحو ٩٣٠ ق. م.) إلّا إنه في القرن الثامن قبل الميلاد ، عادت مملكة أشور إلى التوسع الكبير فاحتلت فلسطين ، ودخلت مصر في أيام أسرحدّون (٦٨١ ـ ٦٦٩ ق. م.). وعلى أنقاض أشور قامت بابل ، فاحتل ملكها نبوخذنصّر فلسطين كلها (٥٨٧ ق. م.). لكن الوارث الحقيقي لأشور كان مملكة فارس ، التي غزا ملكها الثاني ، قمبيز (٥٢٥ ق. م.) ، مصر ، وأصبحت فلسطين جزءا من الولاية الفارسية الخامسة ـ عبر نهرا ـ التي عاصمتها دمشق.