وعلى الرغم من الإحباط وخيبة الأمل اللذين ألمّا بالقيادة السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية جرّاء تعاملها مع الحكومة البريطانية ، فقد استقبلت الكتاب الأبيض الثاني بارتياح مشوب بالحذر. فمع تشبثه بتعهدات بريطانيا إزاء الحركة الصهيونية ، وعد بإنصاف العرب وحماية حقوقهم المدنية. لكن مصير البيان لم يقرره الزعماء الفلسطينيون ، ولا حتى حكومة مكدونالد ، كما ثبت ذلك في الواقع ، وإنما الحركة الصهيونية وأنصارها في بريطانيا والولايات المتحدة. فغداة نشر البيان ، أثارت الحركة الصهيونية ضده موجة من الاحتجاج والتنديد في الأوساط الصحافية والسياسية ، في بريطانيا وأميركا. وانبرى فرسان الاستعمار البريطاني ، من حزبي المحافظين والأحرار ـ بلدوين وتشرشل وتشمبرلين ولويد جورج وسمتس ـ لمهاجمة الحكومة ودعوتها إلى العدول عن بيانها. وكذلك ، وبتظاهرة استعراضية ، قدم وايزمن ، المعروف في الحركة الصهيونية بعلاقاته البريطانية ، استقالته من رئاسة المنظمة وإدارة الوكالة اليهودية ، وتبعه فيلكس واربرغ واللورد ملتست ، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة.
وتحركت القوى الصهيونية في الولايات المتحدة ، فأعلنت اللجنة اليهودية الأميركية أن حكومة بريطانيا قد ارتدت عن وعد بلفور ، وجندت كل قواها السياسية والمالية والإعلامية لتفعيل الضغط على حكومة مكدونالد. وكان الأشد تأثيرا عليها الضغط الاقتصادي في فترة الركود العالمي ، إذ دعت المنظمات الصهيونية وأنصارها إلى تشديد الضغط الاقتصادي على بريطانيا ، بما في ذلك مقاطعة بضائعها ، والتضييق عليها في تسديد فوائد ديونها لبيوت المال الأميركية. وإزاء الضغط الاقتصادي والسياسي والإعلامي ، من الداخل والخارج ، تراجعت حكومة مكدونالد عن الكتاب الأبيض ، وأرسلت إلى المنظمة الصهيونية رسالة (١٣ شباط / فبراير ١٩٣١ م) ، تؤكد فيها تمسكها بالموقف البريطاني التقليدي. وقد سماها العرب «الكتاب الأسود» ، إذ رضخت الحكومة البريطانية إلى الضغوط الصهيونية والأميركية. واعتبرت المنظمة الصهيونية تلك الرسالة تراجعا عن الكتاب الأبيض ، وإلغاء له. ولخص وايزمن في مذكراته أهمية تلك الرسالة ، بما يلي : «إن رسالة مكدونالد قد غيّرت سياسة الحكومة وإدارة فلسطين ، الأمر الذي مكننا من تحقيق مكاسب ضخمة في الأعوام اللاحقة. وبسبب هذه الرسالة سمح للهجرة اليهودية بالوصول إلى ٠٠٠ ، ٤٠ سنة ١٩٣٤ م و ٠٠٠ ، ٦٢ سنة ١٩٣٥ م ، وهي أرقام لم نكن نحلم بها سنة ١٩٣٠.» (١)
لقد حققت استقالة وايزمن الاستعراضية أغراضها ، وتراجعت حكومة مكدونالد ،
__________________
(٤١) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,pp.٣٣٢ ـ ٤٣٢.