جميع أرجاء البلاد ، وكانت اللامركزية في هذه المرحلة تؤدي دورا إيجابيا في الصراع المحتدم. وفي آب / أغسطس ١٩٣٨ م ، بلغت الثورة ذروتها ، بعد الأعداد الكبيرة التي التحقت بها من أبناء القرى ، وسيطرت على طرق البلد وريفه وأحياء من مدنه. وقد تواكب ذلك مع توتر الوضع السياسي في أوروبا ، في إثر «أزمة تشيكوسلوفاكيا» (أيلول / سبتمبر ١٩٣٨ م) ، ولم تعد بريطانيا قادرة على حشد مزيد من قواتها في فلسطين ، بل على العكس ، أخذت تسحب منها إلى مصر وبريطانيا وأوروبا. وكانت مشاركة الهاغاناه في القتال إلى جانب الجيش ، والأعمال الإرهابية العشوائية التي قامت بها المنظمة العسكرية القومية (إرغون تسفائي لئومي) في حيفا ويافا والقدس وغيرها ، حافزا على التفاف الجماهير الفلسطينية الواسعة حول الثورة.
ويصف تقرير عسكري الوضع في البلاد في تلك الفترة (آب / أغسطس ١٩٣٨ م) كما يلي : «أحرقت محطات القطار بين القدس واللد جميعها ، وكذلك معظم المحطات الواقعة بين اللد والحدود المصرية. ووقعت غارات (raids) على بئر السبع ، والخليل ، وبيت لحم ، وأريحا ، ورام الله ، أحرقت خلالها مكاتب البريد والبلديات ومراكز الشرطة وما شابه ذلك. وهوجم ، بصورة خاصة ، مركز الشرطة في هذه المنطقة ، ووقعت كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة في يد الثوار. وكان يخدم في معظم مراكز الشرطة شرطة عرب مشكوك في ولائهم ، ولذا جرّدوا من أسلحتهم. ونظرا إلى عدم وجود شرطة بريطانيين للحلول محلهم ، فقد أغلقت مراكز الشرطة في المنطقة ، باستثناء مركزي غزة والخليل اللتين كانت تعسكر فيهما سرايا الجيش .... وباستثناء طرق المواصلات الرئيسية والأمكنة التي كان يعسكر فيها الجيش ، فقدت الحكومة عمليا السيطرة على مناطق واسعة في البلد.» (١)
إزاء هذه الأوضاع ، وإذ انتهت ، ولو مرحليا ، أزمة تشيكوسلوفاكيا (اتفاقية ميونخ) ، عادت الحكومة البريطانية لتفرض هيبتها على البلد. فاستدعت في ٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ م المندوب السامي ، سير هارولد مكمايكل ، الذي حل محل واكهوب (آذار / مارس ١٩٣٨ م) ، إلى لندن للتشاور في الإجراءات. وأفاد مكمايكل أن سياسة القبضة القوية لم تحقق الهدف منها ، وأنه لا يمكن إخماد الثورة من دون تنازلات سياسية كبيرة للعرب. فقررت الحكومة العمل في اتجاهين في آن معا : حرب شعواء على العصابات ، والشروع في تحقيق مصالحة سياسية مع الزعماء العرب. وبينما عادت الحكومة البريطانية إلى التكتيك السياسي الذي اتبعته في صيف سنة
__________________
(٤٩) المصدر نفسه ، ص ١٦٣.