فالإمبراطورية ، نتيجة ما ولّده ازدهار المدن من تحوّلات اجتماعية داخلية ، وما نجم عن هذه التحولات من صوغ للعلاقات الخارجية ، سلمية أو عدائية ، ظلت بلاد الشام ، ولأسبابها الخاصة أيضا ، تراوح في مرحلة مدن ـ الدولة. ولمّا كانت الكتابة ، وبالتالي الدخول إلى عصر التاريخ ، تعبيرا عن هذا التطور ، أولا في العراق ، ومن ثمّ في مصر ، فقد تخلفت بطبيعة الحال مدن ـ الدولة في بلاد الشام عنهما في هذا المضمار. ولكنه لا بدّ من الإشارة إلى أن حفريات جديدة في سورية وفلسطين ، كما هو الحال في إبلا ، قد تغيّر هذا الاستنتاج الشائع حتى الآن ، والمؤشرات في سورية واعدة أكثر منها في فلسطين.
وبناء عليه ، فإنه عدا ما تكشفه الحفريات عن أوضاع المدن الأولى في فلسطين ، هناك القليل من المعلومات التي توفرها الوثائق المكتوبة التي عثر عليها في العراق ومصر. وهذه الوثائق ، نظرا إلى طبيعتها ، وأولويات اهتمام كتّابها ، فضلا عن قلتها ، لا تساعد كثيرا على إيجاد الأجوبة للأسئلة التي تطرحها نتائج التنقيبات الأثرية ، كأعراض التغيّر الحضاري والحرب وتدمير المدن والقرى وإعادة بنائها ... إلخ. ولعل الوضع في شمال بلاد الشام أفضل حالا على هذا الصعيد من جنوبها ، وذلك بفضل الوثائق التي اكتشفت في ماري (تل الحريري) ولاحقا في إبلا (تل مرديخ) ، وكذلك في جبيل (بيبلوس) وأوغاريت (رأس الشمرا) وغيرها.
ومع ذلك ، فإن ما يتوفر لدينا من معلومات يؤكد أن ثورة عصر المدن قد طالت فلسطين بكل أبعادها ـ السكانية والمادية والروحية والعمرانية ... إلخ. وباستثناء الوحدة السياسية ، التي لم تتحقق قط خلال هذه العصور ، فإن المدن الفلسطينية امتلكت كل السمات الأساسية لتلك التي برزت في العراق ومصر. فقد راح عدد سكانها يزداد ، ورقعتها تتسع ، وتخطيطها يرتقي ، وتحصيناتها تعلو ، وأبنيتها المركزية تشمخ ، ومرافقها تتطور. والأكيد أنه جنبا إلى جنب مع هذه التحوّلات ، تطورت العلاقات الاجتماعية ، وتميّزت الطبقات ، واستقرت التراتبية السلطوية. ومعها تعمقت مركزية النظام السياسي ، وكذلك الاستقطاب الاجتماعي ، من قمة الهرم ـ النبلاء ـ إلى قاعدته ـ العبيد ـ وما بينهما ـ تجار وجنود ومزارعون وحرفيون ـ وفي موقع خاص ، الكهنة والكتبة والإداريون.
والصراع التناحري الذي نشب بين سكان هذه المدن ، الذين ينعمون باستقرار الحياة فيها وازدهارها ، وبين الجماعات البدوية ، المتجولة على أطراف مجالها الحيوي ، والمتربصة على الدوام بها ، تتحين الفرص للانقضاض عليها ، قد حفز بالضرورة سكان تلك المدن على إقامة التحصينات الدفاعية. ولمّا لم تعد الأسوار