وفق أوضاع كل منها الخاصة.
إن كل محاولات التجسير بين الروايات التوراتية المتعددة بشأن ما يسمى «الاحتلال الإسرائيلي لأرض ـ كنعان» ، لم تفلح في إزالة التناقضات بينها. وتميل أغلبية المؤرخين اليوم إلى اعتبار هذا الاحتلال نتيجة مسار طويل ، اتخذ صورا متعددة ، غاب عنها التنسيق والتخطيط المسبق. وفي هذا المسار ، احتلت قبائل معينة ، أو مجموعة منها ، وبصورة عشوائية حين سنحت الأوضاع ، مناطق قليلة السكان ، بينما المدن الكنعانية القوية حافظت على وجودها وأراضيها. ومن هنا ، فإن رواية سفر يهوشوع عن عملية احتلال مبرمجة ، تحت قيادة موحدة ، لا أصل لها ، وإنما حيكت من نسج الخيال لدى كتبة التوراة في عصور متأخرة ، ومن منطلق إثبات وحدة «الشعب المختار» ، في مقابل واقع التفتت الذي تعيشه القبائل المسماة «أبناء إسرائيل».
وعلاوة على ذلك ، فإن المسوحات الأثرية لا تدعم الرواية الواردة في سفر يهوشوع. وعلى سبيل المثال لا الحصر : العيّ التي يرد ذكرها أنها سقطت في أيدي الإسرائيليين ، لم تكن قائمة في حينه ، بل كانت مهجورة خربة ، وشيكم التي يقال إنهم احتلوها ظلت مدينة كنعانية لفترة طويلة بعد ذلك ؛ وأريحا في تلك الفترة كانت قرية صغيرة غير مسوّرة ، وبالتالي فقصة «الأسوار التي انهارت على صوت البوق» هي أسطورة خيالية. ومن التوراة ذاتها يستنتج أن عددا من القبائل المحسوبة على بني إسرائيل ظلت تحت حكم مدن كنعانية لفترة طويلة في مرج ابن عامر والجليلين ـ الأعلى والأسفل. وعلى العموم ، فالدلائل الأثرية تؤكد أن الإسرائيليين لم يفلحوا في احتلال أرض ـ كنعان كما يرد في الرواية التوراتية ، وأن مثل هذا الاحتلال وقع في مراحل لاحقة ، وبعد أن نقضوا العهد مع يهوى ، وبناء عليه فقد وقع من دون «تدبير إلهي».
إن الجمع بين المعلومات المتوفرة من المصادر المتعددة ، يعطي الدلالة على أن التمدد الإسرائيلي في أرض ـ كنعان كان يتناسب اطرادا مع انكماش السلطة المصرية فيها ، وبالتالي انحصارها في المنطقة الساحلية والنقاط الاستراتيجية على طرق التجارة الدولية. وهذا التراجع المصري ترك المدن الكنعانية في الجبال الوسطى ، على عكس تلك الواقعة في السهول وعلى الساحل ، وحدها في مواجهة القبائل الإسرائيلية ، فراحت تسقط بالتدريج ، بحسب قدرتها الذاتية على الصمود. وخلال عصر القضاة (١٢٥٠ ـ ١٠٥٠ ق. م. تقريبا) ، كانت هناك ثلاثة جيوب إسرائيلية : الجليل والوسط والجنوب ، تعزلها عن بعضها البعض مدن وقلاع كنعانية.