بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم. قال صاحب «المفتاح» : «ويقلبون القضية (١) مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله عزوجل في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ) ـ وكم من شقي مرتاب فيه ـ وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلا على طريقة التمثيل.
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر (لا) فينظر إلى قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبّر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر ، هذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت : هذا الكلام صواب تعرض بغيره.
وبهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على (فِيهِ) ولدي
__________________
(١) أي قضية التأكيد للخبر الموجه إلى منكر مضمون الخبر.