يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلىاللهعليهوسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله ، وصفاته ، ووجود الملائكة ، والشياطين ، وأشراط الساعة ، وما استأثر الله بعلمه. فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين ، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية ، كانت الباء متعلقة بيؤمنون ، فالمعنى حينئذ : الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك. وفي حديث الإيمان : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». وهذه كلها من عوالم الغيب.
كان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين ، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب ، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر ، وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] الآيات. وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨].
ويؤمنون معناه يصدقون ، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية ، فأصل آمن تعدية أمن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمنا ثم أطلقوا آمن على معنى صدّق ووثق حكى أبو زيد عن العرب : «ما آمنت أن أجد صحابة» يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر ، فصار آمن بمعنى صدّق على تقدير أنه آمن مخبره من أن يكذّبه ، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كذب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه ، ثم صار فعلا قاصرا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم ، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب ، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية ، ويضمنونه معنى اطمأن فيقولون آمن له : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].
ومجيء صلة الموصول فعلا مضارعا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفا ، أي لا يطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة.
وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم