وجعل الدنيا مصقلة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة ، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيئ الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم ، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضا ليبقى صالحا للوفاء بمراد الله إلى أمد أراده ، فشرع للناس شرعا ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع ، ثم يستتبع ذلك إظهار تمكين أنفسهم من قبول ما يرسم لهم من السلوك عن طيب نفس ، وثقة بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتمارا وانتهاء وفعلا وانكفافا. وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلّا أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد أتى بما كان أحسن من حاله قبل الإيمان ، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونه ، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز ، بحيث إن الشريعة لا تعدم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة ، فهل يشك أحد في أن عمرو بن معديكرب أيام كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول إن الله تعالى قال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] فقلنا لا إنه قد دلّ جهاده يوم القادسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء إسلامه فهل يعد سواء والكافرين في كونه يخلد في النار؟
فالأعمال إذن لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين ـ أعني كونها في الدرجة الثانية وكونها مقصودة ـ إلا مكابر. ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في «الصحاح» في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له : «إنّك ستأتي قوما من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (أي ينطقوا بذلك نطقا مطابقا لاعتقادهم) فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» إلخ فلو لا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه ، ولو لا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرّق بينهما ، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضى بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن يقرّ أحدا على باطل ، فانتظم القول الثالث للقولين.