فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.
وجمع (ظُلُماتٍ) لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣] وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) في سورة الفرقان [١٤] ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ، للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) في سورة الأنعام [١] بخلاف قوله تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث. ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليهالسلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع (ظلمات) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم. وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : (لا يُبْصِرُونَ) لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.
ومفعول (لا يُبْصِرُونَ) محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :
شجو حساده وغيظ عداه |
|
أن يرى مبصر ويسمع واع |
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه