تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح كما ذكر في «المزهر» أن حماد بن الزبرقان قرأ : إلا عن موعدة وعدها أباه [التوبة : ١١٤] بالباء الموحدة وإنما هي «إيّاه» بتحتية ، وقرأ بل الذين كفروا في غرة [ص : ٢] بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي «عزة» بعين مهملة وزاي ، وقرأ : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] بعين مهملة ، وإنما هي «يغنيه» بغين معجمة ، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم» : اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ، ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف ، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف واختلف فيه فهو مقبول ، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر ، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان ، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود ، ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم ، فقد صارت متواترة على التخيير ، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا ، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد آحاد ، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي وابن عبد السلام التونسي وأبو العباس ابن إدريس فقيه بجاية من المالكية ، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة ، وهو الحق لأن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه ، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا ، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في «البرهان» : هي متواترة ورده عليه الأبياري ، وقال المازري في «شرحه» : هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة ، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري ، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة