وقد نستوحي كل ذلك من ملاحظة أن النسك هنا الوقوف في عرفات ، تماما كما لو أن الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده ، وتتعبه ، وتكلفه الكثير من الخسائر ، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع ... فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفف فيها من متاعبه ، ويراجع فيها حساباته ، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها ، ليبدأ من موقع التجدد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكل أوضاع الحاضر والمستقبل.
ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمل الخاشع ، والدعاء المنفتح على الله ، والصلاة السابحة في آفاقه ، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة ، ولكن في مكان آخر : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد ، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الذي هدانا إلى طريق الحق بعد أن كنا من قبله من الضالين (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) ، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرضى والروح والطمأنينة ، ويبعده عن نوازع الشك والقلق والضياع ، ويوجهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كل دنس أو رجس أو التواء ، والقريبة إلى الحب والخير والسّلام. أو يؤدي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو الله ورضوانه في جنة عرضها السماء والأرض أعدت للمتقين ، مما يضمن له خير الدنيا والآخرة ، وينطلق ليتعرف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبية للضلال في داخل النفس وخارجها ، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الاخرة ... وبذلك يحس بالشكر العميق لنعمة الهدى ، ويعيش الشعور بالامتنان لله الذي وهبه هذه النعمة بأكثر مما يحس به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.
ولعل في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية