(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) المؤمنين الطائعين بالجنّة ، (وَمُنْذِرِينَ) الكافرين والعاصين بالنار. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الذي يعطي للأشياء حدودها ، وللقضايا مناهجها ، وللمشاكل حلولها ، وللمنازعات والخلافات خطوطها التي يتميز فيها الحق عن الباطل ، فيكون الكتاب هو المنهج الواضح الذي ينهج بالناس إلى الصواب في أمورهم ، والحكم العدل الذي يسير بالمجتمع إلى ساحة العدل في ميزان القضاء ، (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الحق قبل إنزال الكتاب ، لأنهم كانوا لا يرتكزون في أحكامهم على قاعدة ، مما جعلهم لا يقفون على أساس واضح للوصول إلى النتائج الحاسمة التي تحدد لهم الحق والباطل. وهنا يأتي الكتاب بالحق النازل من الله الذي لا يقترب إليه الباطل في عملية اختراق وامتزاج.
وهكذا أراد الله للحق الرسالي الكتابي أن يكون هو المرجح للناس كافة ، لأنه الذي قرره الله ، وما يقرره الله رب العالمين لا يجوز لأي إنسان أن يناقشه أو يعارضه أو يتمرد عليه. ولكن المشكلة التي واجهت هذا الحق ، أن نقاط الضعف الإنساني قد اندفعت إليه لتثير حوله الضباب النفسي الذي يغطي الحقيقة ، ويمنع الوضوح ، ويبتعد بالفهم عن منهجه الصحيح ؛ فبدأ الاختلاف في الحق الذي جاء به الكتاب (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي : ما اختلف في الحق الذي أنزل الكتاب به إلا الذين آتاهم الله الكتاب وأنزله عليهم ليهتدوا به. ولم يكن ذلك عن شبهة أو اجتهاد مختلف ، بل كان ذلك ـ بعد الوضوح الكامل ـ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وهي الأدلة والبراهين الواضحة التي لا مجال فيها لإنكار منكر أو لاعتذار معتذر ، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) مما يمثله البغي من خلفيات نفسية سلبية كالحسد والعداوة الذاتية ، وحب الرئاسة وغيرها مما يجعل الإنسان يحرّف الكلم عن مواضعه ، فيؤوّل ما لا يقبل التأويل ، ويثير الشبهة في ما لا مجال فيه للاشتباه ، ويجتهد في ما لا موقع فيه للاجتهاد على طريقة الاجتهاد في مقابل النص. وهذا هو شأن المنافقين الذين لم يتعمق