الأسباب ما غَرّتهُ وإستهوته ، لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه ، ولا يستقلّ بِتدبير أمره ، ولو ملك نفسه ، ـ لوقاها ممّا يكرهه من الموت ، وسائر آلام الحياة مَصائبها ، ولإستقلّ بتدبير أمره ، لم يفتقر إلى الخضوع ، قبال الأسباب الكونيّة.
فالحاجة إلى ربٍّ : ـ مَلِكٍ مُدَبّرٍ ـ ؛ حقيقة الإنسان ، والفقر مكتوبٌ على نفسه ، والضعف مطبوعٌ على ناصيته ، لا يخفى ذلك على إنسانٍ له أدنى الشّعور الإنساني ، والعالم والجاهل ، والصّغير والكبير ، والشّريف والوضيع ، في ذلك سواء.
فالإنسان في أيّ منزلٍ من منازلِ الإنسانية نزل ، يشاهد من نفسه أنّ له رباً يملكه ويدبّر أمره ، وكيف لا يشاهد ربّه ، وهو يشهد حاجته الذاتيّة؟
ولذا قيل : إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا. أنّه محتاج في جميع جهات حياته ، من وُجوده وما يتعلق به وجوده من اللّوازم والأحكام ، ومعنى الآية أنّا خلقنا بني آدم في الأرض ، وفرّقناهم ، وميّزنا بعضهم من بعضٍ بالتّناسل والتّوالد ، وأوقفناهم على إحتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فإعترفوا بذلك قائلين ، بلى شَهِدنا أنّك ربّنا» (١).
وبناءاً على ذلك ، يثبت لنا أنّ التّعرف على حقيقة الإنسانيّة ، بخصوصياتها وصفاتها ، هي السّبب والأساس لمعرفة الباري تعالى شأنه.
والحديث المعروف ، الذي يقول : «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عِرَفَ رَبَّهُ» ، ناظر إلى هذه المسألة بالذات.
وقد نقل هذا الحديث مرّةً عن الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، ومرّةً اخرى عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، ومرّةً نُقل عن صُحف إدريس عليهالسلام.
فجاء في بحار الأنوار نقلاً عن صحف إدريس عليهالسلام ، في الصّحيفة الرّابعة ، والتي هي صحيفة المعرفة : «مَنْ عَرَفَ الخِلْقَ عَرَفَ الخالِقَ ، وَمَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَرَفَ الرَّازِقَ ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» (٢).
__________________
١ ـ تفسير الميزان ، ج ٨ ، ص ٣٠٧ ، ذيل الآية المبحوثة ، (مع التلخيص).
٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ٤٥٦ ؛ ج ٥٨ ، ص ٩٩ ؛ ج ٦٦ ، ص ٢٩٣ ، ونقل عن المعصوم عليهالسلام ، وفي ج ٢ ، ص ٣٢ عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله.