مُداهنٍ يُخفي عنك بعض عُيوبك ، لهذا كان داود الطائي قد إعتزل عن النّاس ، فقيل له : لِمَ لا تُخالط النّاس؟ ، قال : ما ذا أصنع بأقوامٍ يخفون عنّي ذُنوبي.
ان أهل الدين يحبون أن يُنبّهوا على عُيوبهم ، بنصيحة غيرهم ، وقد آلَ الأُمر إلى أمثالنا ، بأن وأبغضُ الخلق إلينا من يَنصحنا ، ويُعرّفنا عيوبنا ، ويكاد أن يكون هذا مُفصِحاً عن ضَعف الإيمان ، فإنّ الأخلاق السّيئة : حيّاتٌ وعقاربٌ لدّاغةٌ ، ولو نبّهنا منبّهٌ على أنّ تحت ثوبنا عقرباً ، لشكرنا له ذلك وفرحنا به ، وإشتغلنا بإبعاد العقرب وقتلها ، وإنّما أذى العقرب على البدن ، ويدوم ألمها يوماً أو بعض يوم ، ونكايةُ الأخلاق الردّية على صميم القلب ، وعسى أن يدوم بعد الموت ، أبداً أو آلافاً من السّنين ، ثمّ إنّا لا نفرح بمن ينبّهنا عليها ، ولا تشتغل العداوة معه عن الإنتفاع بنصحه.
الطّريق الثّالث : أن يستفيد معرفة عيوب نفسه ، من لسان أعدائه ، فإنّ عين السّخط تُبدي المساوي ، ولعلّ إنتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن ، يذكرّ عيوبه ، أكثر من إنتفاعه بصديقٍ مداهنٍ ، يُثني عليه ويمدحه ، ويخفي عنه عُيوبه.
الطّريق الرّابع : أن يخالط الناس ، فكلّ ما يراه مذموماً ، فيما بين الخَلق فيطالب نفسه بتركه ، وما يراه محموداً يطالب نفسه به وينسب نفسه ، إليه ، فإنّ المؤمن مرآةُ المؤمن ، فيرى في عيوبِ غيره عيوبُ نفسه ، وليعلم أنّ الطّباعَ مُتقاربةٌ في إتّباع الهوى ، فما يتّصف به واحد من الأقران أعظم منه ، أو عن شيء منه ، فيتفقّد نفسه ويطهّرها عن كلّ ما يذمّه من غيره ، وناهيكَ بهذا تأديباً ، فلو ترك النّاس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم ، لإستغنوا عن المؤدّب ، قيل لِعيسى عليهالسلام : من أدَّبك؟ فقال : «ما أدّبَني أحد ، رأيت جهلَ الجاهل فجانبته» (١).
__________________
١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١١٢ الى ١١٤.