وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) : قالوا ذلك لأنه قد كان طال عمره وهو بين أظهرهم ويدعوهم إلى الإيمان ، فأكثر حجاجه ومجادلته إياهم (١). فقالوا : (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وكان يعدهم العذاب إن لم يجيبوه ؛ كقوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦] ، وما كان وعد لهم في غير آية من القرآن إن لم يجيبوه فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب ، فقال : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي : ليس لي إتيان ذلك إنما ذلك إلى الله ، إن شاء عجل وإن شاء أخر إلى ما بعد الموت ؛ وهو كقول رسول الله لقومه : (لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٥٨].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : لا تعجزون الله عن تعذيبكم فتفوتون عنه ، وقيل : وما أنتم بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها ؛ وهو واحد ، والله أعلم.
وقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : تأويله ـ والله أعلم ـ لا ينفعكم دعائي إلى ما به نجاتكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ثم اختلف في وقت ذلك : قال بعضهم : لا ينفعكم نصحي عند إقبال العذاب عليكم ؛ إن كان في حكم الله ألّا تكونوا من الغاوين في ذلك الوقت.
وقال بعضهم : قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) إن كان الله يريد أن يغويكم](٢) أي : لا ينفعكم نصحى إن كان الله يريد أن يعذبكم في نار جهنم ويقول الغي العذاب ؛ كقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] أي : عذاب جهنم ونحوه من الكلام.
وأما عندنا فهو على ما أخبر : إن كان الله يريد إغواء قوم أبدا فهم في الغواية أبدا ، وأصله أن الله أراد غواية من في علمه أنه يختار الغواية [وأراد ضلال كل من في علمه أنه يختار الضلال ؛ لأن من في علمه أنه يختار الغواية](٣) والضلال اختار عداوته ، ولا يجوز
__________________
(١) دلت هذه الآية على أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قد أكثر في الجدال معهم ، وذلك الجدال كان في بيان التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدل على أن المجادلة في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء ، وأن التقليد والجهل والإصرار حرفة الكفار ، ودلت على أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ثم إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجابهم بقوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) [هود : ٣٣] أي : أن إنزال العذاب ليس إليّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحدا لا يعجزه ، أي : لا يمنعه.
ينظر اللباب (١٠ / ٤٧٦).
(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.
(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.