أحدهما : لا تحزن بكفرهم بالله وتكذيبهم إياك ، ليس على النهي عن الحزن في ذلك ، بل (١) على دفع الحزن عنه والتسلي به ؛ لأن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ كانوا يحزنون بكفر قومهم بالله وجعلهم (٢) أنفسهم أعداء له ؛ كقوله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] وأمثاله ، كان الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ أشدّ الناس حزنا بكفر قومهم بالله وتكذيبهم آياته وأشدهم رغبة في إيمانهم ، وكان حزنهم لم يكن على هلاكهم ألا ترى أن نوحا دعا عليهم بالهلاك وكذلك سائر الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ دل أن حزنهم كان لمكان كفرهم بالله وتكذيبهم آياته ، لا لمكان هلاكهم إشفاقا على أنفسهم.
والثاني : قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) يحتمل أنهم كانوا هموا قتله والمكر به ، فقال : لا تحزن بما كانوا يسعون في هلاكك فإني كافيهم (٣) قال أبو عوسجة : قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) هو من الحزن ، يقال : ابتأس يبتئس ابتئاسا. قال الكسائي ـ أيضا ـ لا تبتئس أي : لا تحزن هو من البأس ، يقال : لا تبتئس بهذا الأمر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) : قال بعض أهل التأويل : (بِأَعْيُنِنا) بأمرنا ووحينا (٤) ، وقال بعضهم (٥) : بمنظرنا ومرآنا (٦) ، ولكن عندنا يحتمل وجهين ، أحدهما : قوله : (بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا ورعايتنا ، يقال : عين الله عليك أي حفظه عليك ، ثم لا يفهم من قوله : (بِأَعْيُنِنا) نفس العين على ما لا يفهم من [قوله](٧) : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨٢] و (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، ولكن ذكر الأيدي لما في الشاهد إنما يقدم باليد ويكتسب باليد ؛ فعلى ذلك ذكر العين لما بالعين يحفظ في الشاهد.
والثاني : قوله : (بِأَعْيُنِنا) أي : بإعلامنا إياك ؛ لأنه لو لا تعليم الله إياه اتخاذ السفينة
__________________
ـ وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٢) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.
(١) في أ : ولكن.
(٢) في ب : جعل.
(٣) في ب : أكافئهم.
(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير عن كل من : ابن عباس (١٨١٤٢ ، ١٨١٤٥) ، مجاهد (١٨١٤٣ ، ١٨١٤٤) ، قتادة (١٨١٤٦).
وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٩٢) وزاد نسبته لأبي الشيخ عن مجاهد ، ولابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس.
(٥) ذكره البغوي بمثله (٢ / ٣٨٢) عن ابن عباس ، وأبو حيان في البحر (٥ / ٢٢١).
(٦) في ب : ومرأى منا.
(٧) سقط في ب.