قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير يعرفه نعمه عليه ، وفيه دلالة رد قول من يقول : إن [المواعظ إنما تنفع](١) الموعوظ (٢) على قدر استعمال الواعظ ، وليس هكذا ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها ؛ لأن نوحا ـ عليهالسلام ـ كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم دعاء ، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل ؛ دل أنه ليس لما فهموا ، ولكن لما ذكرنا.
وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب ، فأخذه إبليس فلم يعطه إلا أن أعطى له الشركة ، فذلك شيء لا علم لنا به ، فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس له في سائر الأنبذة والأشربة نصيب ، إنما يكون له فيما يخرج من العنب ، وتقدير الثلث والثلثين إنما يكون في عصير العنب خاصة ليس في غيره ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) : يحتمل قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) أنه لما قال لهم نوح : اركبوا فيها قولوا (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ، وهو كقول الناس باسم الله من أوله على ما يقال ، ويذكر [اسم الله](٣) في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره.
ويحتمل قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي : بالله مجراها ومرساها ، أي : به تجري وبه ترسو ، وأنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري وبهم تقف ، وهم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقوفها ، وأما سفينة نوح كانت جريتها بالله وبه رسوها لا صنع لهم في ذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : هو ظاهر لمن آمن به وصدق رسوله ينجيه من الغرق والهلاك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت بالله تجري وبه ترسو ؛ حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج ، وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها ، لما كانوا هم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقفها ، والله أعلم.
وقوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : هذا يدل على أنها كانت آية ؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها ، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير [آية لهم](٤).
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.
(٢) في أ : الموعظ.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : لهم آية.