وقوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) أي : ما لبث عندهم حتى اشتغل بتقديم شيء إليهم ، وإلا قد يكون في ذبح العجل وشويه لبث إلا أن يكون العجل مشويّا ، فإن لم يكن مشويّا فتأويله ما ذكرنا أن لم يلبث عندهم في المؤانسة والحديث معهم على ما يفعل مع الأضياف حتى جاء بما ذكر ، وفيه ما ذكرنا من الأدب ، وفيه دلالة فيمن نزل به ضيف ألا يشتغل بالسؤال عن أحوال ضيفه من أين وإلى أين؟ وما حاجتهم؟ ولكن يشتغل بقراهم وإزاحة حاجتهم ؛ لأن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إنما اشتغل بقراهم ، لم يشتغل بالسؤال عن أحوالهم ، ولكن اشتغل بما ذكرنا فجاء بعجل حنيذ ، وهذا هو الأدب في الضيف (١) ، ألا ترى أنه لو كان سأل عن أحوالهم ، فعرف أنهم من الملائكة لكان لا يشتغل بما ذكر ؛ إذ عرف أنهم من الملائكة والملائكة لا يتناولون شيئا من الطعام.
وقوله : (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) ، قال بعضهم : الحنيذ : السمين (٢) ، وهو ما ذكر في موضع آخر : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات : ٢٦].
وقال بعضهم : الحنيذ هو المشوي الذي خد في الأرض خدّا ، فحمي فشوي بالحجر المحمي (٣).
وقال بعضهم : الحنيذ هو المشوي الذي يسيل منه الماء (٤).
وقال ابن عباس (٥) : الحنيذ : النضيج (٦).
__________________
(١) في أ : بالضيف.
وفى هذه القصة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسر من الموجود في الحال ، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة ، ولا يتكلف ما يضر به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أول من أضاف ، وليست الضيافة بواجبة عند عامة أهل العلم ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
وإكرام الجار ليس بواجب ؛ فكذلك الضيف ، وفي الضيافة الواجبة يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ليلة الضيف حق».
وقال ابن العربى : وقد قال قوم : إن الضيافة كانت واجبة في صدر الإسلام ، ثم نسخت.
ينظر : اللباب (١٠ / ٥٢٣).
(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٩٢) ، وأبو حيان (٥ / ٢٤٢) ونسبه للسدي.
(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ٦٨ ـ ٦٩) (١٨٣١٣) عن مجاهد ، (١٨٣٢١) عن الضحاك.
وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وعزاه للطستي عن ابن عباس ، ولابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الضحاك.
(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٨ ، ٦٩) (١٨٣١٦ ، ١٨٣١٨ ، ١٨٣١٩) عن شمر بن عطية. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وعزاه لأبي الشيخ عن شمر بن عطية.
(٥) زاد في أ : هو نضيج.
(٦) أخرجه ابن جرير (٧ / ٦٨) (١٨٣١١) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٢) وزاد نسبته لابن المنذر عن ابن عباس.