يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إنما أراد به : محبة الاختيار والإيثار في الدّين ، لا محبّة النفس واختيارها ؛ بل كانت النفس تحب وتهوى ما يدعونه إليه ؛ دليله قوله : (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).
وليس الدعاء في قوله : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) كما يقول بعض الناس : إنه إنما وقع في السجن ؛ لأنه سأل ربه السجن فاستجيب له في ذلك ؛ ولكن الدعاء في قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) ، وهو كقول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣] ليس الدعاء في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) لأنه (١) : إخبار عما كان منهم ، إنما الدعاء في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] وكذلك قول نوح : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) [هود : ٤٧].
وفي قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) دلالة على أن عند الله لطفا لم يكن أعطى يوسف ذلك ؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفا عنه ؛ حيث قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى ، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم ، حيث قالوا : إن الله قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر ، وقوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي : لا أحد يملك صرف كيدهن عنّي لو لم تصرفه أنت ، وكذلك قوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) [هود : ٤٧] وهو أبلغ في الدعاء من قوله : اللهم اغفر لي وارحمني.
وقوله : (أَصْبُ إِلَيْهِنَ).
قال بعضهم : أمل إليهن (٢).
وقال بعضهم : قال : لو لم تصرف عنى كيدهن لأتابعهن (٣).
ويقال : الصبو : هو الخروج عن الأمر ؛ يقال : كل من خرج عن (٤) دينه فقد صبا.
وبهذا كان المشركون يسمّون النبي صلىاللهعليهوسلم : صابئا ، أي : خرج مما نحن عليه.
وقال أبو بكر الأصم : الأصب : هو الأمر المعجب.
وقوله : (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).
أي : يكون فعلي فعل الجهّال لا فعل العلماء والحكماء ، إن لم تصرف عنى كيدهن.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ).
__________________
(١) في أ : الآية.
(٢) ذكره ابن جرير (٧ / ٢٠٩) ، وكذا البغوي في تفسيره (٢ / ٤٢٤).
(٣) أخرجه بمثله ابن جرير (٧ / ٢٠٩) (١٩٢٥٦) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.
(٤) في ب : من.