وقال بعضهم : قال يوسف للذى ظن أنه ناج منهما ، بجعل الظن ليوسف ، فإن كان الذي ظن](١) هو ذلك الرجل ؛ فكان الظن في موضع الظن ؛ وإن كان الظانّ هو يوسف ـ فهو علم ويقين ؛ أي : علم وأيقن أنه ناج منهما ؛ لأنه لا يحتمل أن يشك فيما يعبر وقد علمه الله تأويل الأحاديث بقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [يوسف : ٦] ، وقال : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [يوسف : ٣٧].
ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف ؛ أي : وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه ، وهو على التقديم والتأخير.
وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
قال بعض أهل التأويل : إن يوسف لما فزع إلى غير الله [وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه الله فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير الله](٢) ؛ ويدفع قلبه عن الله ويشغله بمن دونه ، لكنه رأى ـ والله أعلم ـ أن الله ـ عزوجل ـ جعل سبب نجاته على يديه ، وأنه بقي فيه منسيّا ؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن ، سوى الاعتذار إلى الناس ، والاعتلال لهم على نفى ما اقترفت به زوجته ، أو لينقطع ذلك الخبر [عن ألسن](٣) الناس ، ويبعد عن أوهامهم ، فرأى أنه إذا ذكّره ؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه ؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن الله.
وهكذا جعل الله تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب.
وعلى ذلك تعبّد عباده ؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من الله ؛ نحو : ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها ، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك ، وإنما يحاربون بالله ، وبه يقاتلون ، ومن عنده ينصرون.
وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب ؛ فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] ، وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير الله ، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب ؛ بل رأى ذلك كله من الله ومن عنده ؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله ، ورأى نجاته من عند ذلك ، ولكن للوجه الذي ذكرناه. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.
(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.
(٣) في ب : عن الخلق ألسن.