هذا لا يكون كلام الأنبياء إنما هو كلام بعض العوام الغوغاء. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).
مثل هذا لا يحتمل أن يقوله يوسف ابتداء ؛ على غير سبب أو كلام كان هنالك ، لكنه لم يذكر الذي كان ؛ ونحن لا نعرف ما الذي كان جرى هنالك فيما بينهم.
وكذلك قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).
أمّا أهل التأويل فإنهم قالوا : قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم إلى آخر ما ذكر ؛ لأنه لما قال لهم : إنكم جئتم عيونا لملككم ؛ فأمر بحبسهم ، فقالوا : نحن بنو يعقوب النبي ، وكنا اثنى عشر رجلا ؛ فهلك منا رجل في الغنم ، ووجدنا على قميصه دما ؛ فأتينا أبانا فقلنا : كذا ، وقد خلفنا عند أبينا أخا له ؛ من أم الذي هلك ؛ فعند ذلك قال [لهم](١) : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لكن هذا الذي ذكروا لا يكون سببا ولا جوابا له ، وقد ذكرنا أنه لا يصح هذا الكلام مبتدأ ، لكنا نعلم بالعقل أنه كان هنالك سبب ، ومعنى أمر يوسف أن يقول لهم ذلك ، وإلا لا يحتمل أن يقول لهم يوسف : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) وهو كان يعلم أن أباه يعقوب يحتاج إلى طعام ، ويعرف حاجتهم في ذلك ـ هذا لا يسع إلا بسبب كان ؛ فأمر يوسف بذلك.
وقوله : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) فيما يستقبل ؛ أي : لا تأتوني. والله أعلم.
ويحتمل قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) وجهين :
أحدهما : قال ذلك لهم ؛ إنه يوفي لهم الكيل ؛ لأن أهل ذلك المكان كانوا ينقصون ويخسرون الكيل في الضيق ؛ فقال هو : ألا ترون أني أوفي الكيل ولا أبخس.
والثاني : ألا ترى أنى أوفي الكيل على غير الحاجة ؛ وكان يجعل لغيرهم الطعام على الحاجة ؛ لضيق الطعام.
إني أوفي الكيل على قدر الحاجة وأنا خير المنزلين في الإحسان إليكم والتوسيع عليكم ؛ لأن أهل ذلك المكان لا يحسنون إلى النازلين بهم ، ولا يوسعون [عليهم](٢) ؛ لضيق الطعام. وكأن قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) مؤخر عن قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ؛ كأنه قال : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ؛ فعند ذلك قال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) والله أعلم.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) سقط في ب.