هذا على التأويل الذي قيل في قوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي : يعمكم ويجمعكم ؛ أي : ما كنا نعلم ـ وقت إعطاء العهد (١) والميثاق ـ أنه يسرق ؛ وإلا لم نعطك العهد على ذلك.
ويحتمل : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) وقت ما أخرج المتاع من وعائه ؛ واتهم أنه سرق ، أو لم يسرق ، أو هو وضع الصاع في رحله ، أو غيره وضع أي : ما كنا نعلم في الابتداء أن الأمر يرجع إلى هذا ؛ وإلا لم نخرجه معنا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها).
أي لو سألت أهل القرية وأهل العير ؛ لأخبروك أنه على ما نقول.
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) على ذلك ؛ على ما ظهر لنا ؛ من استخراج الإناء من وعائه (٢) والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً).
فإن قيل : كيف قال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) وجعل ما أخبروه من تسويل أنفسهم وتزيينها ؛ ولم يخالفوه فيما أمرهم في أمر بنيامين ، ولا تركوا شيئا مما أمرهم به ؛ وليس هذا كالأول ؛ الذي قال لهم في أمر يوسف : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ...) الآية ؛ لأنه قد كان منهم خلاف لما أمرهم به ؛ والسعي على إهلاكه ، فكان ما ذكر من تسويل أنفسهم وتزيينها في موضع التسويل والتزيين ، وأمّا هاهنا فلم يأت منهم إليه خلاف ، ولا ترك لأمره ؛ فكيف قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) لكن يشبه أن يكون قال
__________________
(١) في أ : الوقت.
(٢) قال القرطبي : دلت هذه الآية على أن كل من كان على حق ، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه ، أو يتوهم ـ أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه ، ويصرح بالحق الذي هو عليه ؛ حتى لا يبقى متكلم ، وقد فعل هذا نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله للرجلين اللذين مرا ، وهو قد خرج مع صفية بنت حيى من المسجد : «على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيى» ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر عليهما ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّا. أو قال : شيئا» متفق عليه.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه عليه ؛ ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرحم ، وقلة الشفقة؟
فالجواب : أنه فعل ذلك بأمر الله ـ عزوجل ـ أمره به ليزيد في بلاء يعقوب ؛ فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدرجة بآبائه الماضين.
وقيل : إنه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنه لم يأمن أن يدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح.
ينظر : الجامع لأحكام القرآن (٩ / ١٦١) ، واللباب (١٠ / ١٨٧).